النباتات المتكلمة هو عنوان لم تسمع عنه يوماً بالتأكيد، لأن النباتات دائماً صامتة. حتى مقارنة مع الحيوانات التي قد يصدر عنها بعض الأصوات التعبيرية، فالنباتات لا يصدر عنها أي صوت أو اهتزاز حتى. إذاً كيف تتكلم النباتات المتكلمة؟ ومن مع يا ترى؟ هل مع النباتات الأخرى أم الحيوانات الأخرى أم البشر أنفسهم؟ في القديم لم يفكر العلماء في تلك الأسئلة أبداً، لوضوح إجابتها الفورية الغير صحيحة. ولكن اليوم يعرف العلماء أن النباتات المتكلمة حقيقة لا خيالاً، ولذلك بدأت الدراسات المكثفة على هذا الأمر، وللاستفادة منه. في هذا المقال توضيح أكثر عن النباتات المتكلمة، والإجابة على الأسئلة المهمة حول الموضوع.
النباتات المتكلمة : هل هي حقيقة أم خيال؟
مع من تتكلم النباتات المتكلمة؟
حين بدأ العلماء بدراستهم المكثفة على النباتات المتكلمة، وجدوا أن أغلب أنواع النباتات تتكلم بالفعل. بلغة وصوت لا يفهمه البشر. تتكلم مع بعضها البعض، في الحقيقة قد يصح القول بأنها ثرثارة وكثيرة الكلام الذي لا ينتهي. وتتكلم أيضاً مع الحشرات، تلك التي تنجذب إليها وتقف عليها. حتى إن العلماء فكروا أن يستغلوا كلام النباتات المتكلمة في صناعة المبيدات الحشرية. أما عن أمثلة النباتات المتكلمة، فنجد أن الفاصوليا والتبغ والورود، من أشهر أمثلة النباتات المتكلمة. وهي ثرثارة ولا ينقطع الحديث بينهم.
كيف تتكلم النباتات المتكلمة ؟
لقد عهدنا أن الكلام يحدث عن طريق الموجات الصوتية، التي تهتز عبر الذرات في الهواء لتنتقل من مكان إلى أخر. أو نعرف بوجود موجات مغناطيسية أو كهربائية، وكلها يمكن استخدامها لتوصيل الصوت والكلام من مكان لأخر. ولكن طريقة النباتات المتكلمة في التحدث مختلفة عن كل ذلك. فهي تستخدم تواصل كيميائي للتحدث مع من حولها. فالكلمة هنا تخرج على شكل رائحة كيميائية، تطير نحو النبات أو الحشرة المقابلة. بالطبع لا تلتقط أنف الإنسان أغلب هذه الروائح. ولكن النباتات الأخرى تمتلك مستقبلات حساسة تعمل على التقاط وفهم هذه الرائحة. وبالتالي تفهم الكلمة ويمكن أن ترد بنفس الطريقة. بعد هذه الروائح قد تكون سامة تجاه أنواع أخرى.
هي إشارات كيميائية، تستخدمها النباتات المتكلمة للتواصل فيما بينها، وبين الأنواع الأخرى كذلك. سواء كانت نباتات من فصائل أخرى، أو حشرات، وهي بالفعل تصل إلى العديد من أنواع الحشرات. موضوع الحديث يهدف في الأغلب إلى مقاومة العداء الخارجي لتحمي النباتات نفسها. تماماً مثل الحيوان الذي يقف ويصرخ في وجه عدوه، من أجل أن يخيفه ويهرب منه. هي أيضاً تتحدث فيما بينهما لصد العدوان الخارجي من حشرات أو آفات زراعية محتملة. وهذه هي فكرة استخدام لغة النباتات المتكلمة في صنع مبيدات حشرية ومقاومة الآفات التي تضر بالزراعة، بدون أن نؤذي البيئة نفسها. وكأن الإنسان سيدخل كطرف جديد في حديث تلك النباتات، ويساعدها.
ترسل النباتات تلك الإشارات عن طريقة عملية هرمونية تتم بداخلها أولاً. فهي ترسل إلى جميع أجزائها بعض الهرمونات، وحتى إنها تُرسَل إلى الجذر أيضاً. والتي تتشابه كيميائياً مع تلك التي يرسلها جسم الإنسان للعضو المصاب بالالتهاب. ومن بعدها تنبعث الروائح من مختلف هذه الأجزاء. وكلما زاد التهديد أو الضرر الذي يصيب النباتات، كلما زادت كمية وقوة هذه الروائح أيضاً.
ردود فعل النباتات المتكلمة للدفاع عن نفسها
وجب على العلماء أن يتعلموا ردود فعل النباتات للدفاع عن نفسها، وذلك لاستخدام نفس الطريقة في مساعدتها. فقام العلماء في معهد ماكس بلانك، بعمل تجربة على أنواع من النباتات المتكلمة. التجربة عبارة عن دودة صناعية، يتم إدخالها على النباتات لتبدأ في أكل أوراق النباتات ولكن ببطيء شديد. بذلك يصنع العلماء خدعة على النباتات، بأن هناك تهديد وهجوم عليهم، بطيء ولكنه مستمر. وفي ذات الوقت سيقومون بتحليل الكيميائي لما قد يصدر منهم. أظهرت الدراسة أن النباتات المتكلمة لا تبدأ في قول كلمتها أمام الهجوم سوى بعد مرور 17 ساعة على هذا التهديد المستمر. فلو تم قطع النبات مرة واحدة أو إتلافه بشكل سريع، لن ينطق النبات بكلمة واحدة دفاعاً عن نفسه.
يفسر العلماء هذه الظاهرة بأنها منطقية جداً، وتلائم طبيعة النباتات ودورها في هذه الحياة. فلو انطلق جهاز الدفاع الذاتي التي تملكه النباتات المتكلمة، كلما فكر حيوان أو إنسان لمسها أو خدشها لقطع وردة أو ورقة، سيكون ذلك إهدار كبير لطاقة النبات. فالنباتات موجودة على هذه الأرض، من أجل إطعام أغلب الكائنات فيها من الأساس. ولا يصح أن تنكر دورها في خدمة الطبيعة، بدفاعها عن نفسها وطرد كل من يقترب منها، إنها متفانية جداً في عملها. أما حين يزيد هذا التهديد عن المفترض والمقبول في عالم الحيوان، سيكون للنبات كلمة أخرى. قد تسكت النباتات المتكلمة عن أكلها بسرعة، ولكنها لن تسمح باستمرار التهديد عليها.
حراس النباتات المتكلمة
ليس البشر وحدهم هم من يمتلكون مفهوم الحراسة الشخصية، لأن النباتات المتكلة قادرة على إقناع بعض الحشرات بالحديث معهم، على أن يأتوا ويحموها من عدوها. ويسمي العلماء هذه الظاهرة بوجع الرأس. ويشترك أكثر من 500 جين في داخل النبات، من أجل إتمام تلك العملية المعقدة. ومن ضمن النباتات المتكلمة التي تستخدم تلك الاستراتيجية، ستجد التبغ والفاصوليا. وبالنسبة إلى نبات التبغ، استطاع العالم البيولوجي ماركل ديك من إثبات نظريته حول هذا النبات. وهو من جامعة واجينيجين الهولندية، وأجرى دراسته في المختبر وعلى الطبيعة أيضاً منذ التسعينات الماضية. وكذلك العالم إيان بالدوين من معهد ماكس بلانك.
فأثبتوا أن نبات التبغ البري، ينادي على حراسه الشخصيين، حين تهاجمه يرقات البندورة بشكل مستمر وتشكل عليه تهديداً. فيقوم بإطلاق رائحة معينة ليتواصل بها مع حشرات الخنفساء القريبة من نوع Reduviidae. فيقعنها أن تأتي إليه وتنقذه، وهذا ما يحدث بالفعل. تأتي الخنفساء لتأكل اليرقات، وترجع النباتات أمنة مرة أخرى. وهذا الأمر هو تفسير منطقي، لابتعاد حشرة البندورة الكبيرة، عن وضع بيوضها على نباتات التبغ بشكل خاص. من أجل حماية يرقاتها.
طلب المساعدة
كمل قلنا سابقاً، فإن النباتات المتكلمة تتكلم مع جيرانها النباتات، لطلب المساعدة عند الخطر أو التحذير أيضاً من خطر قادم لهم لا محالة. وتمت مشاهدة هذه الظاهرة على نبات الفاصوليا. حيث إنها ترسل إشارات الاستغاثة، بحيث تطلب من جيرانها أن يساعدوها لطرد العدو بكثرة إفرازهم للعصارات والروائح التي تطرد المعتدي. وهذا بالطبع ما تفعله النباتات الأخرى لتلبية النداء، حتى لو لم يتم مهاجمتها هي شخصياً. وتلك الظاهرة تعطي للنبات فرصة أكبر لصد الهجوم، والاستعداد له قبل أن يأتي. فقد أثبت العالم ويليم بولاند من خلال تجاربه على نبات الفاصوليا، في معهد ماكس بلانك، أن الفاصوليا ترسل روائح كثيرة للتكلم مع جيرانها من مختلف الأنواع، سواء نباتات أو حشرات. وكأنها تستغيث بكل من لديها ليكونوا حراساً لها. بغض النظر عن نوع الهجوم وقوته ومن هو المهاجم، فهي تسلح نفسها بكل ما لديها من قوة.
في المقابل، الطرف الثاني يتعرف على قوة وشدة الهجوم من قوة الرائحة الصادرة. كل تلك التصرفات تجعلك تشك بأن النباتات المتكلمة تفكر وتقرر، قبل أن تتكلم بأسلوبها. ولكن في الحقيقة هي مجرد عملية كيميائية، ومن خلال التطور طغيت تلك الصفات على الأنواع لأنها مفيدة وتجعله أصلح للبقاء حياً، هو ونوعه. وبفضل الانتقاء الطبيعي، تظل النباتات المتكلمة لأنها الأقوى في صد الهجوم، وتنقرض باقي الأنواع التي لا تستطيع حماية نفسها.
فن الدفاع عن النفس
الأقوى بلا منازع بين كل النباتات في فن الدفاع عن النفس، هي نبتة التبغ البري. أيضاً تسمى Nicotiana attenuate. لأن حتى البذور تستطيع أن تدافع عن نفسها، وليس فقط الناضج منها كما ذكرناها قبلاً. فالبذور تمتلك سماً خاصاً بها. اليم هو عبارة عن نيكوتين مركز، وقادر على قتل كل من يأكلها. بالطبع الإنسان وحده من يقترب من نبات التبغ لأكله أو مضغه، أما بقية الحيوانات الحشرات فلا تأكل منها أبداً. ما عدا حشرة وحيدة، ولذلك تسمى حشرة التبغ، لأنها وحدها تأكل نبات التبغ مع يرقاتها أيضاً. هي لا تخاف من النيكوتين، لأن جسمها قادر على تخزينه بشكل أمن، واستخدامه بعد ذلك في محاربة أعدائها هي نفسها في حروب الحشرات مع بعضها.
ولكن في ذلك أيضاً لن تصمت النبتة، لأنها متمرسة في الدفاع عن نفسها. فتنتج مادة سكرية، وحين تأكل اليرقات تلك المادة، سينتج عنها رائحة معينة بعد هضمها. تلك الرائحة تجذب النمل، وهو من أقوى أعداء يرقات التبغ. فيتكفل النمل بالتخلص من يرقات التبغ، ويصبح حارس أخر لنبات التبغ. كما إن النبتة نفسها تساعد النمل، لأنها تفرز مادة أخرى تشل حركة اليرقات لفترة وجيزة. عندها لن تقاوم اليرقات حتى، ويمكن للنمل أن يأخذها بهدوء إلى معسكر النمل.
إعادة القدرة على النطق
النباتات المتكلمة تدافع عن نفسها حين تتكلم، ولكن الإنسان حين يزرعها في مكان وطريقة غير طريقتها الطبيعية في البرية، يفقدها هذه القدرة المهمة جداً. فتجد أن أغلب الورود المزروعة بطرق بهدف الإتجار فيها، لا تمتلك نفس الروائح التي تمتلكها نظيرتها البرية. وعندها فهي لا تدافع عن نفسها بالشكل اللازم، وتحتاج إلى مبيدات حشرية وغيرها من أجل الحفاظ على المحصول.
واليوم يحاول العلماء إعادة تلك القدرة مفقودة إلى النباتات المزروعة. كي تتمكن من النطق مرة أخرى وتدافع عن نفسها بطريقة طبيعة، بخلاف تلك الكيميائية الضارة التي يستخدمها الإنسان. من أولى التجارب في هذا المجال، قام بها العالم أيريس كابريس، حيث قام بنقل جين من نوع معين في نبات الفراولة، إلى نبات أخر يسمى Arabidopsis thaliana. هذا التعديل الجيني جعل النبات قادراً على إنتاج أنزيم، وهذا الأنزيم بدوره يطلق رائحة مميزة. يتحدث النبات من خلال تلك الرائحة إلى حشرة تسمى Phytoselulus persimilis. تلك الحشرة جائعة وتبحث عن العناكب، وفي ذات الوقت تشكل العناكب المسماة Tetranychus urticae، خطراً على حياة النبات. فتأتي الحشرة بعد سماع نداء استغاثة النبتة، لتأكل العناكب التي تؤذيها. وبذلك تستفيد الحشرة، وتحمي النبتة نفسها في ذات الوقت. ويأمل العلماء التوصل إلى القدرة التي تمكنهم من فعل نفس التجربة على باقي أنواع النباتات.
النطق يضر النباتات المتكلمة
الحديث طوال الوقت يضر ولا ينفع في حالة الإنسان. وذلك أيضاً بالنسبة إلى النباتات. فالروائح أيضاً تكون مصدر جذب للعدو التي يترصدها هي بالتحديد. ومن الأمثلة المشهورة عن ذلك الأمر تجدها في نبات البندورة. هناك نبات طفيلي يسمى Cuscuta pentagona، وينطق بالعربية حامول مخمس. هذا النبات لا يمتلك كلوروفيل خاص به، لذلك فهو يتطفل على النباتات الأخرى من أجل الغذاء، خاصة نبات البندورة. أما عن كيفية التعرف على هذا النبات بالأخص، فهو يتبع الرائحة التي تصدر عن النبات، وينمو نحوها حتى يصل إليها. وتم تأكيد هذا الأمر من خلال تجارب كثيرة.
بالنهاية عزيزي القارئ، دراسة النباتات المتكلمة هو أمر شيق جداً. وقد يكون في المستقبل أمل الزراعة الحديثة، بدلاً عن الكيماويات الزراعية الضارة.
أضف تعليق