تسعة
الرئيسية » مجتمع وعلاقات » الشخصية » المثالية : لماذا لا يجب أن نلهث وراء المثالية في كل الأمور ؟

المثالية : لماذا لا يجب أن نلهث وراء المثالية في كل الأمور ؟

يحاول الكثيرون الوصول إلى المثالية في كل أمور حياتهم، ويبذلون في سبيل هذا الهدف الكثير والكثير من الجهد، لكن هل الوصول إلى المثالية أمر صحي؟

المثالية

المثالية مصطلح كثيرا ما يفهم خطأ، إذ كثير من الناس من غير الدارسين للفلسفة يعتبرون المثالية فضيلة قصوى ينبغي للإنسان أن يكون عليها، وذلك باعتبار المثالية إنما هي الامتثال للقيم الأخلاقية الحقة التي تُنزل الإنسان منزلة الصراط المستقيم الذي لا يحيد عن جادة الحق والصواب. لكن ليسمح لنا القارئ الكريم بتبديد بعض الأوهام التي نسجها له عقله، إذ أن العقل أيضا بخلاف ما يظن السواد الأعظم أنه مفرخة الحقيقة، العقل بخلاف ذلك هو مفرخة الأوهام! وهو لا زال يصنع للبشرية الأوهام، ينسجها ويحيكها في شبكة محكمة الأطراف متناسقة الروابط ممنطقة العلاقات الداخلية؛ فيظنها العقل الإنساني عين الحقيقة.. هيهات! ولست أريد أن أذهب بقارئي الكريم إلى أبعد من ذلك لأقول له أن مفهوم العقل ذاته من الأوهام التي أنتجها دماغه!

عودة إذن إلى المثالية كمفهوم راود العقل البشري كثيرا فهي ليست كما يظن السواد من الناس، وإن كانت تشتمل على ما يظنه السواد من الناس، لكنها مفهوم يعني شيئا أشمل وأعم وأكثر أولية مما يظنه الناس عنها. كيف هذا؟ هذا ما سنوضحه في مقالنا الذي سنوضح فيه ما المثالية؟ وكيف نشأ المفهوم؟ ولماذا لا ينبغي لنا اللهاث وراءها في كل شيء؟

المثالية ولماذا لا يجب اللهاث ورائها

نشأة مفهوم المثالية

بزغ مفهوم المثالية مع فيلسوف الفلاسفة “أفلاطون”. إذ أن هذا الفيلسوف قد صاغ نظرية للوجود تقسمه إلى وجودين: وجود مادي متعين، ووجود مثالي مفارق. فأما الوجود المادي فهو ذلك الوجود الذي نتفاعل فيه بأجسادنا وحواسنا ونتعاطى أخباره ونتداول معطياته فيما بيننا. فمثلا عندما أشم رائحة الوردة وأريد أن أخبر عن هذه الرائحة سأقول أن رائحة الوردة جميلة، وعندما أريد أن أخبر عن جمال شكلها فسأقول أن شكلها جميل. فكل من الرائحة والشكل يقع داخل نطاق الحواس، أي العالم الحسي، أي العالم المادي المتعين. لكن إذا أردنا الحديث عن العالم المثالي المفارق فذاك شأن آخر، فهذا العالم في نظرية أفلاطون هو العالم الجامع لكل النماذج المادية في صورة مثالية مجردة. فجمال رائحة الوردة وجمال شكلها وجمال الطبيعة وجمال المقطوعة الموسيقية وجمال اللوحة الفنية، كل أولئك قبس من كيان مفارق كلي اسمه “الجمال”، وهذا “الجمال” هو المثال الجامع لكل شيئ جزئي جميل كجمال الوردة صورة ورائحة، وجمال المقطوعة الموسيقية وجمال اللوحة الفنية.. إلخ. وهذا المفهوم ينطبق أيضا على القيم والأخلاق، فمثلا الحاكم العادل والقاضي العادل والأب العادل كل أولئك وجود متعين لمثال “العدالة”. وكذا الحال الصدق والفضيلة والسماح والإخلاص.. إلخ. أطلق أفلاطون على العالم المادي “العالم المحسوس” وعلى العالم المثالي “العالم المعقول”، لماذا؟

المثالية وكهف أفلاطون

وعندما أراد الفيلسوف العظيم توضيح وجهة نظره عن الوجود والتقريب للأذهان فكرته عن الوجود المثالي المفارق لعالم الحس أقام لنا التشبيه الأتي:

تصور أناسا مسجونين في كهف ومكبلين بالأغلال إلى إحدى حوائطه، وهذا الكهف مغلق تماما إلا من ثقب صغير في نفس الحائط المكبل إليه مجموعة الناس هؤلاء، وإذا افترضنا أن هؤلاء الجماعة من الناس المكبلين قد ألفوا أنفسهم منذ أن قُذِفوا إلى الوجود على هذه الحال لم يخبروا شيئا آخر خارج هذا الكهف، ومن خلال الثقب الذي بالحائط تمر أشعة الشمس إلى داخل الكهف لترسم على الحائط المقابل للناس المكبلين ظلال البشر الذين يتحركون بالخارج، في هذا الحالة سيعتقد الناس المكبلين يقينا أن هذه الظلال إنما هي أشخاص حقيقيون. لكن واحد من هؤلاء الناس سيستطيع أن يحطم الأغلال عن نفسه ويهرب من فكاكها وينظر من هذا الثقب ليرى البشر الحقيقيين الذي يتحركون بالخارج ويلقون بظلالهم على جدران الكهف بالداخل، حينها سيغير هذا الشخص من عقيدته ليتيقن أن الذي يتحرك على حائط الكهف ما هو إلا ظلالا للعالم الحقيقي بالخارج. وبالقياس فإن هذا الشخص الذي استطاع أن يهرب من الأغلال هو في نظر أفلاطون -الفيلسوف, وهذا الفيلسوف هو الذي يستطيع أن يحطم قيود الحواس ليرى الحقيقة بعقله، وهذه الحقيقة قابعة في عالم المثال.

المثالية ومطلقية المعايير

على أن الأمر لم يقف عند حد التصورات الفلسفية المجردة، وإنما تسرب من قمة الهرم حيث الفلسفة إلى قاعدته حيث تصورات الثقافة الشعبية لدى العامة. فمثالية القيم والمعايير لدى الناس جميعا أخذت بعدا إطلاقيا -يظن أن القيمة أو المعيار أوملكة الحكم إنما تحددهم جميعا الطبيعة والفطرة الإنسانية التي تصبو دوما إلى المطلق. فعلى سبيل المثال فإن ما تراه جماعة من الناس أنه جميلا كان لزاما على جميع الجماعات الأخرى أن تراه جميلا أيضا، وكذا الحال إذا كان قبيحا، وأن ما تراه جماعة أمرا أخلاقيا كان لزاما على كل الجماعات الأخرى أن تراه أخلاقيا أيضا، وكذا الحال إذا كان شيئا ما منافيا للأخلاق. وهنا نلحظ صدأ الدوجمائية يأكل العقل البشري حتى أفقده صوابه. ويتجلى الأمر ظاهرا عندما تجد العامة يتحدثون كثيرا عن الفطرة كلما لاح لهم أمرا أرادوا له تفسيرا أو تعيينا للسبب، فأنت لا تكاد تحدث أحدهم عن فكرة ما أو عقيدة بعينها إلا وأسرع الرد إليك أن ما تهديك إلى هذه الفكرة أو العقيدة إنما هي الفطرة، غير دارٍ أن الفطرة في الإنسان ليست شيئا سوى ما تحتمه البيولوجيا وقوانينها التي تُخضع سائر بدنه وعقله. بل ليس يخفى على أحد أن هذه النظرة المثالية المطلقية هي أحد أسباب التراجع الفكري في الثقافة العربية، بل هي السبب الرئيس في تفاقم العنف والحالة العدائية؛ ذلك أن كل فريق من الناس يظن في رأيه الصواب المطلق والمثال الذي ينبغي أن يحتذى، وما عداه إنما هو باطل من المعتقد، ومن يعتنق هذا المعتقد إنما هو يعلم يقينا أنه يعتنق باطلا ولكن لحاجة في نفسه أنكر الحق وأظهر الباطل!

هوس المثالية

دغدغ الفكر المثالي العقل البشري أمدا بعيدا، فمن أفلاطون مرورا بفلاسفة الحضارة الإسلامية والعصر الوسيط في أوربا، وانتهاء بالفلسفة الحديثة من ديكارت إلى كانط وهيجل، كانت المثالية فكرا وفلسفة تمثل للعقل البشري بوق الحقيقة المجردة، وإلى الآن يوجد الكثير من المفكرين المهووسين بالمثالية، وتتعاظم نسبة وجودهم في العالم العربي. لكن العقل البشري في محاولته للوصول إلى الحقيقة المجردة يصيبه الكثير من الإعياء والتخبط؛ ذلك أنه يحاول إيجاد ما لا يمكن إيجاده، بل لا وجود له بالأساس! يحاول على سبيل المثال إيجاد القيمة الأخلاقية التي تصلح لكل زمان ومكان، فنجد “كانط” يؤسس نسقه الأخلاقي برمته على أساس عقلاني، وذلك على أساس أن العقل بحسب ديكارت هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس، أي أن العقل وحده هو العامل المشترك بين الناس جميعا أينما كانوا في الزمان والمكان، لكن الذي غاب عن عقل ديكارت كما غاب عن عقل كانط أن هذا العقل ما هو إلا بناء كغيره من الأبنية له عناصر أولية، لبنات، وهذه العناصر أو اللبنات إنما هي عناصر البيئة والمحيط الثقافي الذي ينشأ داخله الفرد وينبني به عقله، وباختلاف هذه العناصر “اللبنات” يختلف البناء “العقل”؛ لذا كان بناء النسق الأخلاقي على المثالية والعقلانية بناء ينخر الضعف فيه.

وبعد، ليست المثالية أمرا منكرا كما يمكن أن يظن في مقالنا، وإنما هي توجه من التوجهات الكثيرة التي تخبط العقل البشري فيها بغية الوصول إلى الصواب المطلق، ولكن كغيرها من التوجهات أيضا فهي أضاعت على العقل الإنساني كثير من المرونة في التقدير والحكم. وتوجه الإنسان نحو المثالية يعني أن هذا الإنسان يحمل الكثير من طيب النوايا وصدقها وبغيتها للحق، لكنه يعني في ذات الآن أن هذا الإنسان لا زال يعاني من طفولة فكرية لم تبرحه آثارها بعد.

ليزا سعيد

باحثة أكاديمية بجامعة القاهرة، تخصص فلسفة، التخصص الدقيق دراسات المرأة والنوع.

أضف تعليق

17 − سبعة عشر =