الفيروسات المفيدة هو مصطلح بالأغلب لم تسمعه من قبل إذا كانت خلفيتك بعيدة كل البعد عن المجال الطبي وعلم الأحياء، ولكن هذا المصطلح ليس خاطئا أو مجنونا على الإطلاق. أنت عزيزي القارئ تملك كامل الحق في التشكيك في صحة مصطلح الفيروسات المفيدة هذا، فكل ما نعرفه نحن العامة غير المختصين في علم الأحياء هو الأمراض التي تسببها تلك الفيروسات من أمراض اعتيادية نشاهدها كل يوم كالبرد والإنفلونزا والحصبة ووصولا إلى الأمراض المميتة كالإيدز والتي تنتشر بشكل هائل عبر القارات كالإيبولا. فكيف إذا يمكننا الاقتناع بأن تلك المخلوقات التي تسبب كل هذه الأمراض والشرور بإمكانها أن يطلق عليها الفيروسات المفيدة ؟! هذا هو ما سنعرفه سويا في هذا المقال.
هل الفيروسات المفيدة حقيقة أم خيال؟
ما هي الفيروسات؟
المعلومات العامة حول أي موضوع نهتم به هو أول سبيلنا نحو فهم أفضل له ولما يمكن أن يقوم به. لذلك، قبل أن نقوم بالدخول في الفيروسات المفيدة مباشرة والتعرف عليها وعلى آلياتها، علينا أولا أن نتحدث قليلا حول الفيروسات بشكل عام ومعرفة بعض النقاط الأساسية حولها.
الفيروسات هي كائنات صغيرة جدا ذات حجم ميكروسكوبي، وتعتبر كائنات معدية تقوم بإصابة جميع أنواع الخلايا الحية بمختلف أنواعها من النباتات أو الحيوانات أو الإنسان أو حتي الطحالب والفطريات والبكتريا. الطريقة الوحيدة التي يمكن للفيروسات الحياة والاستمرار بها هي عن طريق اقتحام خلايا الكائنات الأخرى والتوغل فيها واستغلال موارد تلك الخلية في سبيل توفير الغذاء والمأوى لها. إذا، الفيروسات هي كائنات طفيلية لا تستطيع النجاة بمفردها وبدون كائن تعيش عليه. ربما أنتم محقون أكثر من علماء الأحياء حقا .. كيف يمكن لهذه الكائنات الطفيلية المؤذية أن تكون مفيدة؟!! دعونا لا نبني استنتاجات الآن ولنكمل رحلتنا داخل الفيروسات المفيدة –أو غير المفيدة- كما سيتضح لاحقا.
من أي شيء تتكون الفيروسات؟
الطريقة التي تعمل بها الفيروسات ستساعدنا كثيرا في فهم كيف يمكننا استغلالها في تطويعها لفعل أشياء غير التي صنعت لها. والطريقة التي تعمل بها الفيروسات تعتمد كثيرا على الشكل الذي تتواجد به إما في خارج خلايا الكائنات الحية أو في داخلها. في الطبيعي، تتكون الفيروسات من ثلاثة أجزاء تميزها عن بقية الكائنات الحية وغير الحية. أول وأهم جزء هو الصفات الوراثية التي تعرف باسم المادة الوراثية أو DNA أو ال RNA في حالة الفيروسات، هذا الجزء يحتوي على كل المعلومات التي يحتاجها الفيروس من أجل البقاء على قيد الحياة والتحكم في الكائن الذي سيغزوه. يحيط بهذه المادة الوراثية غطاء بروتيني يعمل على حمايتها وتوفير بعض البروتينات الهامة التي سيستعملها الفيروس فيما بعد في خلال رحلته داخل خلايا الكائن الحي. وحول الغطاء البروتيني يوجد غلاف دهني يحيط بجسد الفيروس بأكمله ويظل موجودا فقط في حالة وجود الفيروس خارج خلية الكائن الحي. ما الذي يحدث إذا لهذه المكونات الثلاثة عندما يبدأ عمل الفيروس؟
كيف تعمل الفيروسات؟
عندما يحدد الفيروس الخلية التي قرر اقتحامها، فإنه يقف على جسد الخلية من الخارج، يغرس ما يشبه الأنابيب داخل جسد الخلية حتى تساعد الفيروس في نقل مادته الوراثية والبروتينات من داخل جسده إلى داخل خلية الكائن الحي تاركة الغطاء الدهني خارج الخلية. فور ما وصلت المادة الوراثية والبروتينات إلى داخل خلية الكائن الحي، تقوم البروتينات بعمل ما يشبه الاحتلال على كل موارد الخلية وتطويعها نحو هدف واحد فقط وهو بقاء الفيروس وازدهاره! يحدث هذا عن طريق إقحام المادة الوراثية للفيروس بداخل المادة الوراثية لخلية الكائن الحي بمساعدة تلك البروتينات الخاصة بالفيروس، ثم إجبار الخلية على مضاعفة تلك المادة الوراثية من خلال عملية مضاعفة المادة الوراثية العادية للخلية. يقوم الفيروس بمضاعفة مادته الوراثية حتى يصل إلى مستوى الإشباع فيبدأ بعدها بصنع أغطية بروتينية أخرى لتحيط بكل نسخة من نسخ المادة الوراثية. فيصبح لدينا فيروسات جديدة بعدد كل غطاء بروتيني ونسخة مادة وراثية تمت مضاعفتها داخل الخلية. الخطوة التالية لعملة تصنيع الفيروسات تلك هي تفجر خلية الكائن الحي والانتشار إلى الخلايا المجاورة! يبدو الأمر ملحميا ودمويا جدا أليس كذلك؟ بدأ الأمر بفيروس واحد وانتهى بالآلاف من الفيروسات التي تعيث فسادا في جسد الكائن الحي! أيمكن حقا أن يكون هناك شيئا يدعى الفيروسات المفيدة ؟!
الأمراض التي تسببها الفيروسات
تعتبر الفيروسات من أحد أخطر مسببات الأمراض في حياتنا نظرا لأن معالجة الأمراض الناتجة عن الفيروسات يعتبر أمرا في غاية الصعوبة. وأكبر دليل على هذا هو أننا لما نجد علاجا أو لقاحا قادرا على التخلص من البرد والإنفلونزا الذي يصيب الملايين من البشر كل عام على عكس مرض شلل الأطفال مثلا الذي تمكن العلماء من إيجاد لقاح فعال له. السبب وراء هذا الأمر هو أن الفيروس يتكون من شيئين أساسيين كما اوضحنا سابقا وهما المادة الوراثية والبروتينات. هذه المادة الوراثية تكون متغيرة بطريقة سريعة جدا وكبيرة جدا بحيث أن أي لقاح يصنعه العلماء على نوع معين من الفيروسات في فترة معينة، فإن معظم المادة الوراثية تتغير على مستوى عدة أجيال قليلة تاركة اللقاح الحالي غير فعال على الأجيال الجديدة. هذا التغير السريع لمادة الفيروسات الوراثية وعدم قدرتنا على صنع لقاح يستمر لأكثر من جيل هما السببين وراء عدم قدرتنا على مواجهة أخطار الفيروسات.
والمحبط في الأمر هو أن الفيروسات تساهم بكرم واضح في مختلف أنواع الأمراض التي تصيب الكائنات الحية. فهي تساهم في الأمراض اليومية كالبرد، والأمراض العصبية التي تصيب الدماغ أو الأعصاب، والأمراض المناعية كالإيدز وحتي قد تكون أحد مسببات أمراض كالسرطان. فالشيء الذي وجده العلماء أمامهم هو كائنات تساهم بوفرة في الآلاف من الأمراض، بالإضافة إلى عدم القدرة على مواجهة هذه الفيروسات. فكيف فكر العلماء إذا؟!
نشأة الفيروسات المفيدة
ربما كان السبب الذي جعل العلماء يلجؤون إلى الاستفادة من الفيروسات هو عدم قدرتهم على مواجهتها فقرروا الاستفادة منها. والطريقة التي فكر العلماء في استعمال الفيروسات وتحويلها من الفيروسات المميتة إلى الفيروسات المفيدة ، هي استغلالها كوسائل علاجية لأمراض مختلفة.
استعمال الفيروسات المفيدة كدواء
أحد أهم الأسباب الذي جعل العلماء يفكرون في استغلال الفيروسات هي قدرتهم الهائلة على الوصول إلى داخل الخلية الحية وتطويع الموارد الموجودة بداخلها دون تخبط أو تيه. فأحد المشاكل التي تواجه علماء الدواء هي كيفية إيصال المادة الفعالة إلى داخل الخلية المصابة دون فقد تلك المادة في خلال رحلتها داخل الجسد؟ هناك الأقراص العلاجية التي توجد في كبسولات أو على هيئة أقراص صلبة ويوجد أيضا الحقن الوريدي، ولكن كل هذه الطرق معرضة لفقد المادة الفعالة في طريقها داخل الجهاز الهضمي أو حتى عدم عمل المادة الفعالة بشكل تام إذا افترضنا وصولها بحالة سليمة. فحقيقة أن الفيروسات لديها تلك الخفة والمهارة في إيصال محتواها داخل الخلية هو ما لفت نظر العلماء إلى استعمالها كغطاء للمادة الفعالة. فبدلا من أن يعطي المريض الدواء في كبسولات بلاستيكية، يتم إعطاءه الدواء في فيروسات. وبدلا من أن يفرغ الفيروس محتواه من المادة الوراثية داخل الخلية، فإنه يقوم بتفريغ الدواء.
البكتيريا والفيروسات
كما أن الفيروسات تتسبب في عدد هائل من الأمراض، فإن البكتريا أيضا تساهم بنفس الكرم في الإصابة بأمراض كثيرة أيضا هي الأخرى. وكما أن الفيروسات تعتبر من الصعب جدا التخلص أو القضاء عليها، فإن البكتريا أصبحت عنيدة هي الأخرى أمام المضادات الحيوية التي اعتادت أن تقضي عليها. ولعلكم لاحظتم تلك الموجة المتناقلة حول الأمراض البكتيرية التي كان يمكن معالجتها بالمضادات الحيوية العادية لكن هذه البكتيريا أصبحت مقاومة لتلك المضادات ولم تعد حساسة تجاهها كما في السابق. ما حدث في حالة البكتيريا هو تماما ما حدث في حالة الفيروسات. تغيرت المادة الوراثية للبكتيريا بسرعة فأصبحنا غير قادرين على ملاحقة تلك التغيرات وأصبحت المضادات الحيوية غير فعالة. يرجع بعض العلماء إلى أن سبب هذا التغير في تركيب البكتيريا –لأن هذه الخاصية لم تكن معتادة في البكتيريا- هي الإسراف في استعمال المضادات الحيوية بداع وبدون داع مما أدى إلى مقاومة البكتيريا لهذه الأنواع نظرا لتعرضها الدائم لها. فكانت نتيجة هذا الاستعمال الطائش هو خلق بكتيريا غير مستجيبة لأي علاج نقدمها لها الآن.
استعمال الفيروسات للقضاء على البكتيريا
نظرا لرحمة الله الواسعة، فإن مشكلة البكتيريا أصبح يمكن حلها جزئيا بمساعدة الفيروسات. فكما أوضحنا أن الفيروسات يمكنها إصابة الكائنات الحية المختلفة، وأيضا أوضحنا أنها لديها المهارة في الوصول إلى خلية بعينها دون تخبط، فإن أحد الخصائص المميزة للفيروسات هي أنها قد تكون متخصصة جدا فيما يتعلق بنوع الخلية التي ستقوم بمهاجمتها. لذلك ستجد أن هناك فيروسات ستصيب البشر فقط وأيضا الفيروسات المفيدة التي ستصيب البكتيريا فقط. هذه الفيروسات المفيدة هي بالضبط ما سنحتاجه في سبيل مواجهة تلك البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية. من الأمور المذهلة التي وجدها العلماء أثناء دراسة الفيروسات المفيدة المهاجمة للبكتيريا تلك –والتي يطلق عليها بيكتريوفاج- هي أنك إذا وضعتها داخل جسد كائن حي فإنها لن تهاجم سوى الخلايا البكتيرية فقط. وأيضا وجد العلماء أن كل نوع من البكتيريا يوجد له نوع خاص من البكتريوفاج الذي لن يعمل على بكتيريا أخرى سواها. أي أن استعمال البكتريوفاج داخل جسد الكائن الحي لن يكون ضارا على البكتيريا المفيدة التي تُعرف بأنها تساعد الإنسان في إتمام عمليات جسده المختلفة. لذلك، نحن بالطبع لا نريد أن نتجنب ضررا ما فنقوم بإحداث ضرر آخر، فلن نقوم باستخدام الفيروسات المهاجمة للبكتريا قبل أن نتأكد من أنها لن تصيب البكتيريا المفيدة الموجودة داخل جسد الإنسان.
استعمال الفيروسات المفيدة لتعديل الجينات
عندما لا يكون غرض العلماء إيصال دواء ما، فإنهم يقومون باستغلال العملية التي يقوم بها الفيروس عندما يصل بمادته الوراثية إلي داخل الخلية وإقحامها داخل مادة الكائن الحي. في حالة الأمراض الجينية التي لا يمكن علاجها بدواء أو كبسولة، يكون الحل الوحيد هو معالجة المادة الوراثية نفسها –وهو أمر في غاية الصعوبة ولم يتم السيطرة عليه تماما حتى الآن-. ما يقوم به العلماء هو استبدال المادة الوراثية الضارة داخل الفيروس بأجزاء مفيدة من المادة الوراثية التي يحتاجها الكائن الحي. وعندها يقوم الفيروس بإقحام المادة الوراثية المفيدة بدلا من المادة الوراثية الضارة. وتسمى هذه الطريقة باسم “العلاج الجيني”.
هناك طرق أخرى وأفكار متجددة في مجال الأحياء نحو تطوير والاستفادة من الفيروسات واستعمالها في مجالا مثيرة جدا، وهناك الكثير من الأوراق البحثية والمقالات العلمية التي ستأخذك في رحلة داخل هذا المجال إذا أردت معرفة أشياء أكثر عنه.
أضف تعليق