الفن والتجارة أصبحا هذان المصطلحان مجتمعان دائمًا في أحاديثنا المعاصرة، فلا يتم ذكر الفن إلا ويتم ذكر علاقته بالتجارة أو بمعنى أكثر وضوحًا علاقته بالمادة، فالفن يحتاج إلى رأس المال كي يتم تقديمه، بينما التجارة هي التي توفر له الجانب المالي، ولكن هل هذا الارتباط صحي فعلا؟ وهل يثمر عن تعاون مشترك بينهما يخدم كل منهما أم يخدم طرف على حساب آخر؟ من خلال هذا المقال سوف نحاول أن نفهم ما هو الفن؟ وما طبيعته ورسالته؟ لماذا نحتاج إلى الفن في حياتنا؟ وضع الفن قبل ارتباطه بالتجارة ووضعه بعد ارتباطه بها، كما سوف نستعرض أوضاع الفن المعاصر وهل يقوم برسالته فعلا أم لا؟
هل ارتباط الفن والتجارة أمر صحي؟
طبيعة الفن
يتم تعريف الفن على أنه قدرة فائقة على استنطاق الذات الإنسانية للتعبير عن كل ما يمر بها من مشاعر وأحاسيس ومواقف، ويتم ذلك في صورة تمثيل لواقع الشخص المعاش أو وضع مجتمعي معين، أو تفاعل الفنان مع أي منهما، والفن ضرورة حياتية لا غنى عنها، فهي غذاء الروح كما الطعام غذاء للبدن، لذلك نحن في حاجة إلى الفنون سواء ممارسة أو متابعة حتى نستطيع أن نحيا بشكل إنساني سليم متزن. فالفن هو موهبة تمنح للإنسان ولكن بدرجات مختلفة، فلسنا جميعا فنانون، فمن لا يتقن نوع من أنواع الفنون تجده يعجب بنوع آخر ويهتم به شديد الاهتمام، لذلك فالفن قيمة عظيمة على مر العصور، وسوف نستدل بذلك في الموضوع المطروح وهو الفن والتجارة، مالهم وما عليهم.
أنواع الفنون
تنقسم الفنون إلى عدة أنواع، وإن كانت جميعها تشير فعلًا إلى مدى ارتباط الفن والتجارة بدرجة أو بأخرى وهي:
الفنون المادية
وهي الفنون التي تهتم بالمادة مثل الحرف، وهي النحت والعمارة والبناء والرسم والتصوير والزخرفة.
الفنون الغير مادية
وهذه هي التي تعتمد على الإحساس بالخيال وخفة الروح، مثل الشعر والقصص والموسيقى والرقص.
الفنون العملية
وهذه من تسميتها تعتمد على الجانب العملي والتطبيقي بين أيدينا، والذي من خلاله يظهر الجمال مثل الأعمال اليدوية والحرفية الجميلة.
الفنون البصرية
ومن تسميتها أيضا تعتمد على البصر في الإحساس بالجمال كالسينما والتلفزيون والمسرح.
الفنون التشكيلية
وهو الذي يعتمد على صور الطبيعة والتي يقوم بتمثيلها الإنسان ليظهر قيمها الجمالية.
قيمة الفن
للفن قيمة جمالية وروحية، فيه يسمو الإحساس ويتميز الإنسان بكونه إنسان، فالحيوانات لا تتذوق الفنون؛ ومن ثم فهي ميزة للإنسان وحده، المجتمعات التي يهتم فيها مواطنيها بالفن تصنف ضمن المجتمعات الراقية مهما كانت ظروفها الاقتصادية، ولكن للأسف في بلادنا العربية فإن آخر ما يمكن التفكير فيه هو الفن وتذوقه؛ وذلك لخطابات عدة منها الخطاب الديني الذي يقول بتحريم الفن ومنها الخطاب السياسي الذي يفضل طمسه حتى لا يرقى ذوق الإنسان للفن والجمال ويتطلع لما هو أسمى، في حين يرى هذا الطرف أن الأسلم سياسيًا هو أن ينحصر اهتمام الإنسان باحتياجاته الضرورية وتوفيرها وبهذا ينقلونه من مرحلة الإنسانية إلى المرحلة الحيوانية ويسلبون الميزة التي ميزه بها الخالق عن سائر الكائنات، ويكون الطريق الأول لهذه العملية من خلال ربط الفن والتجارة حيث يتحكم رأس المال فيما، يتم إنتاجه وبالتالي سوف ينتج ما يريده هو بالطريقة التي يريدها.
طبيعة التجارة
التجارة أو الأعمال التجارية ينصب اهتمامها على المكسب والخسارة، وكيف تبتعد عن الخسارة مستخدمة في ذلك كل ما يمكنها من طرق سواء مشروعة أم لا، في مقابل المصلحة الفردية الخاصة. ويمكننا اعتبارها صفة أنانية بامتياز؛ حيث ينحصر الاهتمام بطرف واحد بغض النظر عن أي شيء آخر، وربما نضرب مثال يقرب لنا الصورة أكثر، فلو أن المصانع التي تطلق الأبخرة والدخان في السماء وتلوث البيئة، هل يمكن لصاحب العمل أن يدفع المزيد من الأموال ليقلل من مخاطر هذه الأبخرة؟ بالطبع هذا لن يحدث في ظل غياب القانون؛ لأن ما يهمه هو مصلحته هو وتحقيق الربح وتقليل التكلفة، فكيف يتم ارتباط الفن والتجارة وهما نقيضين؟!
إشكالية الفن والتجارة
موضوع ارتباط الفن والتجارة أصبح بسيط ويمكننا أن نستنتجه من تعريفنا لطبيعة الفن والفنان وطبيعة التجارة والتاجر، فالفنان يجتهد ليسعد الآخرين، يفكر بهم ولهم وينفعل معهم ويحيا معهم معاناتهم، على النقيض تمامًا فالتاجر لا يهتم إلا بمكسبه الفردي الشخصي. الفنان اجتماعي محب للمجتمع والناس والبيئة والجمال في مقابل التاجر لا يشعر إلا بما يدر عليه الربح ويحقق له مطامعه، فكيف تكون النتيجة إذا ارتبطا الاثنان معا في إنجاز عمل ما؟! سوف تكون النتيجة أن طرفين متناقضين ذوات رؤى مختلفة يسير كل منهما عكس اتجاه الآخر، أو ينحاز أحدهما لطريق الآخر المسيطر، وفي الغالب هو الجانب المالي، أي التجاري، ويحقق له ما يريد في مقابل تحقيق الربح على حساب رسالة الفن السامية.
الفن والأيديولوجيا
ارتباط الفن والتجارة يمكننا أن نطلق عليه مصطلح “أدلجة الفن”، وهو يعني ببساطة أن يكون للفن أيديولوجية معينة لها وجهة نظر معينة مرتبطة بفئة ما أو مصلحة ما تسعى فقط إلى خدمة مصالحها، في حين أن الفن لا يكون فنًا إلا في إطار من الحرية، فهو إبداع من صاحبه وليس إبداع موجه من الآخرين. وقد أصبح الفن للأسف على مستوى العالم كله مؤدلج، أي يخدم أيديولوجيات معينة لأسباب وأغراض غير فنية، وكذلك الفنانون يلجؤون إلى العمل في مثل هذه الأعمال لأن رجال المال أصبحوا محتكرين الساحة الفنية بسلطتهم المالية، وبالتالي هم المتحكمون فيما يتم إنتاجه، وبالتالي لا يتم إنتاج الفن إلا من أجل الكسب المادي، لذلك تفرض عليه معايير التجارة والمحاسبة فيفقد الفن قيمه الجمالية ويتحول إلى سلعة يزداد ثمنها بطريقة عرضها، ويتم فقد الإحساس بالذوق والجمال في مقابل مسايرة الذوق العام في المجتمع -لا تحليله ومحاولة إصلاحه، وإنما العمل على مسايرة ترسيخ معتقداته.
الفن بين ماضِ مشرف وحاضر مر
منذ أن نشأت الفنون وهي تسعى إلى إسعاد البشرية جمعاء. كان انتماء الفن عالمي، وكان الفنانون يشعرون بقيمة عظيمة لما يقومون به ويفخرون بأنهم يمارسون نشاطا ينشر البهجة والسعادة ويمتع الناس، كان الفن صاحب رسالة فنية خلقية إنسانية، وكانت الدول وأنظمتها تحترم ذلك وتشجع عليه ليتميز المجتمع بالنضج الفكري والحسي معا، وظل الفن هكذا إلى أن طغت الرأسمالية على العالم ونشرت مبادئها في كل أنشطته وأصبح الفن تحت سيطرتها وحدث ما نناقشه خلال المقال من ارتباط الفن والتجارة، فنجد الآن الكثير من النقاد الفنيون القدامى ينعون الفن والفنون ويشكون حاله لما بددت الرأسمالية من صفاته الأساسية وحولت مساره وأصبح سلعة تباع وتشترى لمن يريد على شرط أن يدفع أكثر، فالكثير من الإنتاج السينمائي على سبيل المثال في أيامنا هذه أصبح لا يمت للفن بصلة وإنما هراء وافتعال، ولم يعد للفن رسالة أخلاقية ومجتمعية، وإنما أصبح الوضع بالمعكوس وساء الحال وتبدلت الأحوال، وقل هذا على كل الأنواع الأخرى.
وفي النهاية يمكننا أن نؤكد على أن ارتباط الفن والتجارة هو ارتباط غير مشروع وغير أخلاقي وهي رابطة تخنق الفن وتقتله، ولكي يحيا الفن ويزدهر علينا أولًا تحريره من قبضة الرأسمالية حتى يبدع الفنان بحرية ويستمتع المواطن العادي بما يقدم له دون فرض موضوعات بعينها عليه، ربما الحل يبدأ من الأفراد بمحاربة كل ما هو مبتذل وربما بتكاتف من المجتمعات لمحاربة القبح ونشر الجمال.
أضف تعليق