العديد من الكائنات الحية تضطر إلى العيش في جماعة. لأن الجماعة تقدم لها ظروف ملائمة للحياة. مثل الحماية من الخطر، والبحث عن الطعام بشكل أسهل، والتكاثر، وكل ما يحتاج له هذا الكائن الحي. وفي بعض الظروف قد تكون الحياة بعيدًا عن الجماعة هي مصدر تهديد لهذا الكائن الحي. إذًا هو مضطر وليست رغبة منه. في هذا المقال ستتعرف عن بعض تلك الكائنات الحية وظروف معيشتها، مثل الحشرات، الطيور، الأسماك، وحتى اللبونات. وستعرف لماذا أصبحت قضية العيش في جماعة مسألة حياة أو موت بالنسبة لهم.
لماذا تضطر بعض الكائنات الحية إلى العيش في جماعة ؟
قوانين العيش في جماعة
عندما ننظر على قضية العيش في جماعة عند الحيوانات ككل، ستجد أن لها قوانين ولا تختلف كثيرًا عن قوانين البشر. فلكل جماعة طريقتها في المعيشة وأهدافها وطرقها التي تنفذ بها هذه الأهداف. إلا إنه في المجمل هناك قوانين ثابتة ومشتركة بينهم جميعًا. وهو قانون الحفاظ على استراتيجية الجماعة لحماية الأفراد، لتوفير حظوظ أفضل لهم جميعًا والبقاء على قيد الحياة. بتوفير الغذاء والبيئة المناسبة للتكاثر، لتمثل الجماعة نجاحًا أفضل لكل فرد مقارنة بما قد يفعله وهو بمفرده.
أما القوانين الداخلية لكل جماعة فهي تختلف من واحدة إلى أخرى، حسب طبيعة حياة الكائن. فقد تجد أن هناك جماعة من كائنات تتحرك وتتصرف وكأنهم كائن واحد فقط في كل شيء. وذلك لإخافة العدو، والوحدة تحسن الظروف المعيشية. وهناك جماعة تهتم بتحقيق رد فعل مناسب تجاه الطبيعة. وعلى سبيل المثال تهاجر من مكان لأخر بين الفصول المتغيرة، للبحث عن مكان يتوفر فيه الطعام والأمان بشكل أفضل. وحماية أفراد الجماعة أثناء التنقل. سواء كان هذا التنقل عن طريق السباحة، الطيران، أو الهجرة مشيًا على الأقدام، حسب كل مجموعة. وعلى النقيض تجد أن هناك جماعة تنتهج أسلوب الحياة في مكان واحد، والسيطرة عليه وعلى موارده بشكل كبير. فتتكاتف الجماعة كلها في هذا الهدف وحماية منطقتها.
حتى القوانين السياسية عند العيش في جماعة فهي معروفة مسبقًا. فهناك جماعة يتحدد بها الطبقات الاجتماعية والأعمال لكل فرد. مثل تربية أطفال الملكة الوحيدة في الجماعة. ولكن هناك أيضًا، جماعة تسود فيها المنافسة بين أفرادها، ومن المنافسة يتحدد مكان كل فرد ومستوى سلطته. ومن هنا نعرف أن العيش في جماعة عند هذه الكائنات لا يأتي بطريقة عشوائية. فالهدف الرئيسي واحد، ولكن طرق تنفيذه تختلف. وستعي هذا الكلام أكثر من خلال الأمثلة التالية.
أمثلة الكائنات التي تضطر إلى العيش في جماعة
طيور الفلامينغو
طريقة العيش في جماعة ضمن طيور الفلامينغو هي فريدة من نوعها. لأن أعدادهم الكبيرة التي تتجمع كل عام في منطقة واحدة تفرض عليهم العمل سويًا للحفاظ على أنفسهم في تلك الفترة. لأن هذا التجمع سيكون محط أنظار الأعداء وكل واحد منهم مهدد للخطر بمفرده. تتجمع طيور الفلامينغو الصغيرة والوردية كل عام عند بحيرة ناترون في تنزانيا، في شرق أفريقيا. ليغطي 2 مليون طائر تقريبًا منطقة البحيرة كلها. ومن ينظر إليها من فوق سيظن أن لونها تحول إلى الوري الجميل. المميز بتلك البحيرة أن مياها قاعدية، مما يناسب هذه الطيور ويحميها من باقي الحيوانات في نفس الوقت. تتآلف الطيور وتنجح في استغلال الطفيليات والبكتريا والطحالب الموجودة في البحيرة بشكل مثالي ومتكافئ لكل أفراد الجماعة. إنه حدث سنوي مهم جدًا لحياة تلك الطيور وبقائها هي ونسلها.
العناكب طويلة الأرجل
هذه العناكب من نوع “Opiliones” حيرت العلماء كثيرًا في طريقتها الفريدة التي تعيش بها. إنها غير قادرة على إنتاج السموم أو حتى الخيوط، وما يميزها فقط هي أرجلها الطويلة جدًا مقارنة بجسمها، وبها تجري خلف ضحيتها وتأكلها. ما يجعل هذه الجماعة مصدر حيرة أكبر، أن العلماء لا يعرفون بالتحديد موطنها الأصلي، إن طريقتها في العيش في جماعة سمحت لها التنقل من موطن لأخر وكأنهم يغزون العالم في صمت. لقد اجتاح هذا النوع الفريد في السنوات الأخيرة كل أنحاء هولندا. ومن ثم انتقل إلى سويسرا، النمسا، وألمانيا.
في النهار تخرج الجماعة من مخبأها، وتتجمهر في مجموعة كبيرة ولكنها لا تزيد عن الألف عنكبوت. ومن ثم تتحرك وكأنها واحدة، وبذلك فهي تسبب الحيرة للأعداء والخوف كذلك. فإن زاد العدد عن الألف، تفرقت إلى عدة مجموعات أصغر، وتوزعت كل مجموعة في كل الاتجاهات. إنها حقًا ماهرة في تشتيت من يراقبها، ومنظمة ومتناغمة جدًا وكأنهم ينتقلون بعقل واحد، فلا يخرج فرد منهم إلى خارج مجموعته حفاظًا على حياته وقوة المجموعة. إنها منظمة أكثر من المنظمات العسكرية.
الفراشات الملكية
هذا النوع يسمى “Danaus plexippus”، في الحقيقة هم فراشات رقيقة وضعيفة وصفراء اللون. والعيش في جماعة بالنسبة لهم هو سبيل النجاة. في شتاء كل عام، تتجمع مئات الملايين من تلك الفراشات الجميلة. وتتوزع على اثنتي عشر منطقة في المكسيك، وتتميز المناطق باحتوائها على أعداد كبيرة من أشجار الصنوبر. ويتجمعون من كافة أنحاء أمريكا الشمالية. هناك على تلك الأشجار يتحول لون الفراشات كلها إلى اللون البرتقالي الجميل. وتظل متعلقة على الأشجار وجالسة دون حركة، وكأنهم يدفئون أنفسهم جنبًا إلى الجنب بأعدادهم الكبيرة جدًا. أما حين تطلع الشمس ويصير المكان أكثر دفئًا، تترك الفراشات مكانها وتطير بين الأشجار والنباتات. ولأنها تطير في جماعات كبيرة، فتظهر وكأنها سحابة كبيرة قاربت على الأرض. بألوانهم الرائعة وحركتهم المتناغمة والراقصة صعودًا ونزولًا، وكأنهم يتحركون على أنغام الموسيقى. جمالهم يجعل عينك مثبتة عليهم.
الثور الأمريكي
العيش في جماعة أنقذت حياة تلك الثيران من حافة الانقراض. في الماضي كانت تلك الثيران يصل عددها إلى المئة مليون فرد. وكانت تعيش منفردة أو في جماعات صغيرة أو كبيرة. وتتخذ من سهوب أمريكا الشمالية كلها موطنًا لها. ويُقال إنها عاصرت العصر الجليدي وعصر العمالقة الكبار. فكانت الجماعة الكبيرة منها عندما تسير جنبًا إلى جنب، تصدر أصوات مثل الرعد بأقدامها معًا، أثناء بحثها عن الحشيش لتأكل. وإن ثارت أو حاول حيوان مهاجمتها، سيموت من قورنها أو تحت الأقدام الثقيلة. أما اليوم فلم يتركها البشر في أمان، بسبب قرونها أو جلودها، أو بسبب عوامل بيئة أخرى، فقاربت تلك الحيوانات الضخمة على الانقراض. فلم يتبقى لها سوى حل العيش في جماعة لحماية أنفسها وتوفير حظوظ أوفر للطعام والتكاثر وحماية نوعها. واليوم يعيش 15 ألف فرد فقط منها، وأغلبها يعيش في محميات طبيعية.
أطفال العناكب ومرحلة العيش في جماعة
عندما تبدأ العناكب الصغيرة في الخروج من بيوضها يكتشفون أن الحياة صعبة جدًا، والمخاطر والتحديات لا تنتهي، وهم ضعاف لن يتمكنوا من الاستمرار بمفردهم. فوق كل هذا يجدون أمهم قد تركتهم، لأن أغلب الإناث لا ترعى أبنائها. وهذا النوع من العناكب يعيش في أوروبا. فلا يجدوا حلًا سوى البقاء متكاتفين داخل هذه الظروف الصعبة، على الأقل حتى اكتمال نموهم وتغير الجلد، واكتمال قدرتهم على صنع شبكة صيد قوية من الخيوط العنكبوت التي توفر لهم الطعام. فيبدئون بصنع شبكة خيوط كبيرة جماعية ويتعلقون عليها جميعًا منكمشين على بعضهم البعض. فإذا جاء عدو يهدد حياتهم، تفرقوا بسرعة كبيرة في كل الاتجاهات. مما يسبب بلبلة وزغللة لعين العدو ويتركهم. بعد بضعة أيام، يكونوا جاهزين للعيش بمفردهم. فيتركون الجماعة واحدًا تلو الأخر معتمدين على أنفسهم. فالعيش في جماعة بالنسبة لهم، ليعبروا المرحلة الحرجة الأولى في حياتهم فقط.
جماعة الوز الثلجي
أي شخص منا نحن البشر، نحب أن نلتصق بمن نعرفهم في الأماكن الغريبة التي نذهب لها لأول مرة. وكذلك الحال بالنسبة للوز الثلجي من أمريكا الشمالية، والذي يسمى “Anser caerulescens”. في فترة هجرة هذا النوع من الطيور، يطير من كل أنحاء أمريكا الشمالية إلى بحيرات معينة في الولايات المتحدة الأمريكية. في الليل يلتفون حول بعضهم في وسط البحيرة، حتى تحميهم من الحيوانات الضارية على اليابسة. أما في النهار فيطرون خارجها بحثًا عن الغذاء. البحيرة الواحدة قادرة على احتواء أكثر من مليون طائر، من هذه الطيور الصغيرة والجميلة. وعندما ينطلقون للخارج دفعة واحدة بهذا العدد الرهيب، فإنهم يشبون التنظيم العسكري الخارج إلى الحرب. مع كل التناغم والنظام في الطيران، لأن قوتهم في أعدادهم، وكأن طبول الحرب انطلقت وهناك من أمرهم جميعًا بالانطلاق. وحينها تصدر الطيور الصوت المميز جدًا للوز الثلجي، ومن هو عاشق للطيور سيرغب بالتأكيد بالاستماع لأصواتهم وتسجيل مقاطع الفيديو التي تظهر هذا الجمال.
السرطعانات الحمراء
السرطعانات الحمراء والتي تسمى “Gecarcinidae”، تخرج للعيش في جماعة في وقت التكاثر فقط. لو أنك رأيتها تسير من جحورها متجهة نحو البحر، ستظن أن العالم يواجه احتلال من قبل هذا النوع. يخرجون من أراضي تسمى ” Chrismas Island”، وتتجمع هذه السرطعانات ليصل عددها إلى مئة مليون فرد. يتوجهون جميعًا نحو البحر، حيث يتممون هناك عملية وضع البيض والتلقيح. ومن المميز أن تلك السرطعانات تتناغم مع بعضها ومع الطبيعة أيضًا. فينظمون أوقات خروجهم واحدًا تلو الأخر في أيام محددة، وهذه الأوقات تتناسب مع مواسم الأمطار الموسمية، وكذلك مع مواقيت المد والجزر لتلائمهم الظروف.
العيش في جماعة عند الإنسان
في الأمثلة السابقة كلها نتكلم عن حيوانات، إما صغيرة وضعيفة وتتكاتف من أجل البقاء على الحياة، أو حتى قوية وكبيرة ولكن الظروف البيئة أرغمتها على العيش في جماعة وإلا سيكون الانقراض مصيرها. أما الكائن الحي الوحيد الذي يعيش في جماعات لأسباب مختلفة كثيرة هو الإنسان. ولا تجعل الطريقة تشتت انتباهك عن الهدف الأساسي، وهو الحفاظ على النوع وتوفير حظوظ أوفر للحياة. ولكن النقطة كانت مهمة جدًا في بدايات الإنسان القديم، الذي كان يواجه تحديات يومية من الطبيعية، ولم يكن يتميز عنها في شيء. أمام الآن فأصبحت الجماعة أمر حيوي بالنسبة للإنسان من خلال المنظور الاجتماعي. ولن يعرف الإنسان كيفية الحياة بعيدًا عن بقية صنفه لمدة طويلة. وحتى من يعشق العزلة، فلابد أن يأتي وقت ويحتاج لإنسان أخر بجانبه. لقد تحول الأمر من احتياج غريزي مثل الحيوانات، إلى احتياج نفسي واجتماعي. وبالطبع كلما خالف الإنسان هذا الأمر وأصبح وحيدًا، كلما زادت عنده المشاكل النفسية والاجتماعية وحالات الاكتئاب والانتحار. إذًا الفكرة والهدف تظل تصب في نفس المصلحة العامة، ولكن بطريقة مختلفة.
أخيرًا عزيزي القارئ، كانت هذه قائمة بأنواع مختلفة من الكائنات التي تعيش في جماعة عن اضطرار لضمان الحياة، بما في ذلك الإنسان نفسه. وهناك أمثلة كثيرة متنوعة لأن تلك الظاهرة منتشرة جدًا بين كل الكائنات في العالم.
أضف تعليق