تمتلك العادات اليومية لدى البشر، درجة عالية من القوة، بحيث يصبح من الصعب علينا، أن نغير تلك الأنشطة التي اعتدنا عليها بشكل دوري. ويساعدنا سلطان وقوة العادة على تسهيل الأنشطة التي نريد إنجازها سريعًا في الحياة دون إهدار للوقت أو الطاقة والمجهود. ومن ثمّ فإن العادات اليومية تمثل سلاح ذو حدين، الأول يدعمنا ويساعدنا في الحياة، والثاني يقف عائقًا وسداً منيعًا أمام محاولات التغيير التي نسعى إليها لتطوير حياتنا. ومن هذا المنطلق فإن هذا المقال يقدم إلى القارئ بعض التبصرات حول العادة وقوتها وكيفية تغييرها والاستفادة منها قدر الإمكان.
استكشف هذه المقالة
الآلية التي تعمل بها العادات اليومية : المُنبه، الاستجابة، والمكافأة
إن العديد من الدراسات السيكولوجية تؤكد على أن ما نقوم به من أنشطة يومية، يكون معتمداً على العادات التي تكونت لدينا بنسبة 40% وليس الأمر مقتصر على كونه مجرد نشاط وفعل مقصود بشكل شعوري وتم التفكير والتجهيز له قبل ممارسته. فكيف إذن، تتكون لدينا العادات؟
إن العادات اليومية تتشكل وتتحرك من خلال ثلاث مراحل مترابطة، تتمثل في: (المثير أو المنبه الخارجي – ثم الاستجابة والتفاعل مع المثير – ثم المكافأة والاسترخاء). فعلى سبيل المثال عندما تشعر أولاً بمؤثر أو مثير خارجي يدفعك للاستيقاظ مبكراً كعادتك، فإنه يحفز المخ بشكل سريع نحو العادة التي تتخذها في مثل ذلك التوقيت. يأتي بعد ذلك استجابتك ورد فعلك على هذا المثير أو المنبه، فتبدأ بممارسة الأعمال التقليدية التي تتبعها في هذه الحالة كالاستيقاظ والاستحمام وتناول وجبة الإفطار، حيث يتم ذلك بكل سهولة ويسر. وفي المرحلة الثالثة، تشعر بحالة من الاسترخاء وكأنك تحصل على مكافأة نتيجة لإنجاز هذا النشاط التلقائي، حيث يعطي مخك إشارة إلى نجاح العادة أو النشاط الذي قمت به.
وتعتبر مسألة التعلم واكتساب العادات اليومية والحفاظ عليها بشكل مستمر ودائم، تعتمد في الأساس على جزء خاص في المخ، يمكنه أن يقوم بوظيفته ومهامه بشكل تقليدي وعادي دون الاعتماد على بقية أجزاء المخ ومدى تلفها أو إصابة بعضها. لذلك فإننا نجد بعض الأشخاص الذين تعرضوا لإصابات في المخ تجعلهم لا يتذكرون أشياء كثيرة، نجد لديهم إمكانية الاحتفاظ والاستمرار في العادات التي تم تكوينها وتشكيلها سابقاً وأيضاً يستطيعون تكوين عادات جديدة. ومن هذا المنطلق فإن العادات اليومية تتميز بدرجة عالية من المرونة وقوة الاستمرار. ولهذا السبب قد نفشل كثيراً عندما نريد التخلص من بعض العادات السيئة، لأنها تعمل وتسيطر علينا بشكل تقليدي دون قصد.
السبب وراء سيطرة العادات اليومية على سلوكنا بشكل مستمر ودائم
لعلنا نتساءل عن السبب الذي يمنح العادات اليومية لدينا، قوة وسلطان في الاستمرار بشكل دائم في حياتنا دون القدرة على التخلص منها أو تغييرها بسهولة؟ إن الأساس العلمي والعصبي الذي يعتمد عليه استمرار وسيطرة عاداتنا بهذا الشكل، يتمثل في قدرتها على خلق حالة من الاشتياق تجاه أي فعل تعودنا على القيام به. فكثير من التجارب التي تمت على الحيوانات تشير إلى أن المخ يكون في حالة من الانتظار لكي يشعر بالاسترخاء والمكافأة قبل القيام بأي نشاط اعتادوا القيام به من خلال المراحل المتتالية من (المثير-الاستجابة-الاسترخاء). ونتيجة لهذا الانتظار والشوق لهذه الحالة فإنهم يصابون بالإحباط وخيبة الأمل عندما يتوقفون عن هذا النشاط المعتاد، ومن ثمّ لا يحصلون على حالة الاسترخاء والمكافأة التي ينتظرونها.
انظر على سبيل المثال إلى ذلك الشخص الذي تعود على أن يتناول في نهاية اليوم، وجبة ذات سعرات حرارية عالية، من مطعم للمأكولات السريعة بجوار عمله، بوصفه نشاط تعود عليه كمكافأة بعد الانتهاء من العمل. لكنه يسعى الآن للتخلص من هذه العادة، ولا يقبل على تناول هذه السعرات الحرارية الكبيرة بعد ذلك نتيجة لزيادة وزنه الملحوظ. الحقيقة أنه سيجد صعوبة حقيقية في ترك تلك العادة، لأنها خلقت لديه حالة من الاشتياق والشغف بهذا الشعور المريح الذي يشعر به عندما يتناول هذه الوجبة في نهاية اليوم كمكافأة على مجهوده. لذلك تجده لا يستطيع السيطرة على ذهابه إلى المطعم معتقداً أن ذلك سيمثل مرة أخيرة ثم يبدأ من جديد في الامتناع عن الذهاب. وهكذا يمثل الشوق والشغف عائقًا أمام كسر تلك الحلقة الرتيبة والضرورية في العادات اليومية (مثير- استجابة – استرخاء).
ولا يقتصر تأثير هذا الاشتياق على صعوبة التخلص من العادات السيئة فقط، بل إنه يمتد لمساندة وتدعيم العادات الصالحة والجيدة أيضًا. فهؤلاء الذين يقومون بممارسة بعض التمرينات الرياضية، فإنهم يشعرون دائماً بحالة من الشوق إلى ذلك نتيجة لأن ممارسة الرياضة تجعل المخ يقوم بإفراز مواد كيميائية مفيدة تشعرنا بالسعادة والاسترخاء. وقد يأتي هذا الشوق نتيجة للشعور بالإنجاز أو الفوز والمنافسة والتحدي في بعض الألعاب الرياضية التنافسية. وبالتالي يدعم اشتياقهم لتلك الحالة قدرتهم على الاحتفاظ بتلك العادات اليومية بشكل مستمر.
طريقة تغيير العادات اليومية : من سيطرة العادة إلى السيطرة على العادة
يتمثل الدرس الأساسي الذي يمكن أن نتعلمه لكي نتمكن من تغيير العادات في أننا: لكي نستبعد ونتخلص من العادة القديمة أو السيئة فإنه يتعين أن يحل محلها عادة أو نشاط جديد، بحيث نتمكن من إعادة توجيه حالة الاشتياق والشغف نحوها، والتي نشعر بها تجاه العادات القديمة. القاعدة إذن تعتمد على قدرتك أن تعيد توجيه ودفع شوقك وشغفك ناحية أنشطة وعادات جديدة تعطيك نفس الشعور بالاسترخاء والمكافأة. فعندما يسعى شخص للتخلص من عادة التدخين، فإنه لا يستطيع ذلك بسهولة نتيجة لاحتياجه وشوقه المستمر إلى النيكوتين، وعندها يمكن تحويل هذا الشوق إلى فعل آخر غير التدخين، دون أن نتخلص من الشوق نفسه.
وعلى الرغم من ذلك فإن الرجوع إلى العادات اليومية القديمة أو الضارة، وارد جداً. ومن ثمّ قد يحدث انتكاسة تدفعك نحو ممارساتك القديمة وعلى وجه الخصوص عندما تتعرض لضغوط حياتية شديدة. فأحد هؤلاء المتعافين من إدمان الكحول، نجده يعود إليه بعد عدة أعوام من التخلص من تلك العادة، نتيجة تعرضه لأخبار صادمة أو أزمة قوية تعصف بظروف وتفاصيل حياته. ومع ذلك فإن التجارب والخبرات في هذا الشأن تشير إلى أنه يمكن السيطرة على تلك الانتكاسات والرجوع إلى ممارسات قديمة، عن طريق حالة من الإيمان بمبدأ التغيير وإمكانيته المتاحة للإنسان بلا حدود. وهذا يتطلب درجة عالية من النضج والصلابة النفسية القائمة على مبدأ روحي، ديني كان أو إنساني. وبالتالي يتمكن الأشخاص من مواجهة الضغوط المفاجئة التي قد تعود بهم للخلف إن لم تجد أمامها مقاومة وحالة نفسية صلبة.
كذلك يستخدم الأطباء بعض الطرق التي يمكنها أن تساعد مرضى السمنة في سعيهم للتخلص من الوزن الزائد وتغيير نمط حياتهم وسلوكياتهم الغذائية. يتم ذلك عن طريق خلق وتكوين عادة رئيسية تتصدر سلوك الإنسان بشكل أساسي، مثل الالتزام ببرنامج غذائي منخفض السعرات بشكل واضح ومحدد. يكون ذلك هو الأساس ثم يليه تطوير وإنشاء عادات جديدة أخري تتم بشكل تلقائي بعد تثبيت العادة الرئيسية. ويمثل السبب وراء النجاح الذي يحرزه تثبيت تلك العادات اليومية الأساسية، هو أنها تقطع مسافات بسيطة وصغيرة من الإنجازات والتقدم المستمر. وهذا سيؤدي إلى تراكم تلك المسافات الصغيرة لتصنع في النهاية إنجازاً ونجاحاً أكبر. كذلك فإن توافر وخلق عادات رئيسية، سوف يعمل كدافع ومحفز لنا لكي نصدق ونؤمن بإمكانية التغيير في شتى تفاصيل الحياة.
أهمية الإرادة ودورها في تثبيت وتشكيل العادات اليومية لديك
إن قوة الإرادة يمكن النظر إليها بوصفها مهارة وقدرة نستطيع أن نكتسبها ونتعلمها. وفي حقيقة الحال فإن الإرادة تشكل عادة رئيسية نستطيع أن نعمل على تطويرها وتحقيقها في الحياة. ففي واحدة من التجارب والأبحاث، وجدوا أن الأطفال من سن أربعة سنوات، الذين يتميزون بقوة إرادة عالية، فإنهم استطاعوا أن يحققوا نجاحاً وتقدما كبيراً في العمل وفي حياتهم الشخصية، عندما كبروا، إذا ما تمت مقارنتهم بزملائهم أصحاب الإرادة الضعيفة.
وقد تختلف قوة إرادتنا من موقف إلى آخر، فأحيانًا نستطيع أن نبذل مجهوداً بدنيًا كبيراً في التمرينات الرياضية، بينما لا نستطيع أن نحرك ساكنًا ونتحرك لغرفة أخرى داخل المنزل في أحيان أخرى. تشبه الإرادة إلى حد كبير مرونة العضلات من حيث أنها قد تصبح مرتخية وضعيفة أحيانًا أو قد تكون صلبة وقوية. فعندما نقوم بالالتزام بنظام وسلوكيات غذائية محددة فإن ذلك قد يساعد في زيادة قوة وصلابة الإرادة لدينا كما لو كانت تمرينات لتقوية الإرادة. ومن الأمور التي لوحظ درجة تأثيرها السلبي على الإرادة، هو أن لا يمتلك الأشخاص مساحة حرية للتصرف والتحكم في اختياراتهم وأنشطتهم، ومن ثمّ يكونوا واقعين تحت إجبار وسلطة أعلى ملتزمين باتباعها، وهذا الأمر يساعد كثيراً في ضعف إرادتهم بشكل ملحوظ.
الاستفادة من العادات اليومية في عالم الأعمال وداخل الشركات
تعمل العديد من الحملات الإعلانية والتسويقية للشركات والتجار، على تحليل سلوكيات المستهلكين، ومن ثم معرفة عاداتهم وجمع المعلومات اللازمة عنهم، حتى يتمكنوا من طرح السلع بشكل يتلاءم ويتناسب مع احتياجات المستهلكين وبالتالي تزداد المبيعات ويحققون أقصى أرباح ممكنة. فعلى سبيل المثال، عندما أدرك رجال المبيعات والتسويق أن الأشخاص يقومون بالتركيز على الجانب الأيمن في بداية دخولهم لأي محل تجاري، فإن البائعون يضعون في تلك الجهة كل ما له ربحًا وسعراً أعلى من بقية المنتجات.
كذلك يمكننا أن نلاحظ انتشار وسيادة مجموعة من العادات اليومية داخل أي شركة أو مؤسسة بشكل غير رسمي، لكنها تأخذ طابع إجباري بين الجميع، كما لو كانت قوانين عرفية يتم الاعتماد عليها بين المسئولين والموظفين. وفي بعض الأحيان فإن سلطة وسيادة هذه العادات قد تؤدي إلى حدوث الكثير من الأزمات والكوارث داخل الشركة. ومن ثم علينا أن نأخذ ذلك بعين الاعتبار ونتعلم من تلك الأزمات بوصفها تعطي مساحة جديدة لإعادة تقييم تلك العادات اليومية وبالتالي يمكن تغييرها وتطويرها بشكل مختلف يعتمد على إدارة الطوارئ والأزمات في الأولوية. فالحقيقة أن منطقة التميز التي يلمع فيها القادة العظام الناجحون، هي قدرتهم على العمل مع تلك الأزمات والطوارئ بشكل إداري ماهر وجيد.
خاتمة
هناك مسئولية والتزام يقعان على عاتقنا نتيجة لتلك الأفعال التي نقوم بها تحت تأثير العادات اليومية، ولن نستطيع أن نتهرب منها، وتحديداً عندما نعرف ونعلم مدى الضرر الذي تحدثه هذه العادة أو تلك. ولا يكفي أن نتنصل ونعلن عدم مسئوليتنا على هذه الأفعال، بسبب أنها من تأثير العادة وسلطانها فقط، وليست من أفعالنا المقصودة! وقد رأينا خلال السطور السابقة، كيف تمثل العادات حجر الأساس في سلوكنا وحياتنا، بحيث تمتلك من قوة وسلطان التأثير مالا حد له. لذلك علينا أن نعي جيداً قواعد اللعب مع عاداتنا ونفهم كيف تعمل وكيف يتم السيطرة عليها وإعادة توجيهها أو تغييرها. فعن طريق قوة الإرادة يمكننا أن نخلق عادات مركزية وأساسية ونقوم بتثبيتها في حياتنا، لكي نتمكن من إحداث التغيير المطلوب. وعن طريق إعادة توجيه الشوق والشغف تجاه نشاط معين، إلى نشاط آخر، فإننا سنتمكن من استبدال عادة محل أخرى. وعن طريق تحليل ومعرفة سلوك المستهلك وعاداته يمكن للحملات التسويقية أن تصل لأهدافها سريعاً. كل ذلك يؤكد لنا الحاجة إلى السيطرة على العادات اليومية وتوجيهها نحو الطريق السليم.
أضف تعليق