من منا لا يحلم بحلم الشباب الأبدي أو بمعنى أخر فكرة الخلود وتحدي الموت المتربص بنا كلنا، وبتحدي الشيخوخة التي تجعل أيام شبابنا وقدرتنا محدودة؟ على مر العصور السابقة كان العلم يخشى دراسة فكرة الشباب الأبدي بسبب أسباب دينية في الأغلب واقتصر الأمر على الخيال والروايات. ولكن في الفترات الأخيرة مع تقدم العلم وامتلاك الحرية الكافية تمكن العلم من التوصل إلى أفكار كثيرة تدعم الشباب الأبدي وتجعله لا يبدو مستحيلاً، تماماً كقدرتنا على مواجهة بعض الأمراض سنواجه الموت أيضاً ونتغلب عليه. ويقول العلماء أن الأجيال القادمة ستعيش ما بين المئة والألف سنة بسهولة بشباب دائم، ولكن يظل الموت موضع شك في قدرتنا على التغلب عليه نهائياً. في هذا المقال ستتعرف أكثر عن قدرة العلم في تحقيق حلم الشباب الأبدي.
هل سيصل الإنسان يومًا إلى حلم الشباب الأبدي ؟
الشباب الأبدي يبدأ في البلدان الصناعية
في البلدان المتقدمة صناعياً ويعيش أفرادها في رفاهية مقارنة بما تعيشه الشعوب في باقي بلدان العالم، نجد أن متوسط عمر الفرد زاد في السنوات الأخيرة ويظل يستمر في الزيادة. ولكن النهاية واحدة ألا وهي الموت حتى ولو بعد أكثر من مئة عام بقليل. الفكرة هنا أننا لم نصبح ولن نصبح خالدين بطريقة سحرية ولكننا سنتمكن من تحدي أعراض الموت أو بمعنى أخر الشيخوخة لنؤجل النهاية المحتومة. هذا هم ما نعنيه بالشباب الأبدي. لتقل معه أعراض الشيخوخة مثل ضعف البصر والسمع، وظهور التجاعيد وآلام المفاصل وغيرها. كل تلك الأعراض تتحكم فيها بعض العوامل الكيميائية داخل الجسم وإذا تعلمنا كيف نتحكم بها نحن بصحة سليمة ونظام نظافة عالي تماماً كما البلاد المتقدمة سنصل إلى حلم الشباب الأبدي لا محالة.
تجارب تؤكد إمكانية الوصول إلى الشباب الأبدي
في بدايات القرن الثامن عشر وبالتحديد بعام 1908 كان العالم الألماني ماكس ريبنر على أعتاب اكتشاف نظرية مهمة بما يختص بالشباب الأبدي. النظرية تقول إن جميع كائنات الأرض بما فيهم الإنسان لا تمتلك نظام محدد لمواعيد الشيخوخة والموت بل كلها مقاييس تقريبية، باستثناء سمك السلمون الذي يموت بعد تلقيح البيض. إذاً فلابد أن يوجد عامل مشترك بين كل الكائنات يكون له اليد العليا في ظهور أعراض الشيخوخة مبكراً أو متأخراً. حسب نظرية هذا العالم فإن ذلك العامل هو “التبديل الغذائي”، لأنه لاحظ أن السلحفاة والتي تمتلك تبديل غذائي أقل تعيش إلى مدة أكبر، مقارنة بالتبديل الغذائي السريع لدى الفئران فتعيش مدة أقل. لدراسة هذه النظرية تمكن بعض العلماء من استنتاج نتائج متشابهة بتجربتهم عام 1917. وفيها تم تجويع بعض الفئران ليقللوا من التبديل الغذائي أما باقي الفئران فسمح لهم بالأكل ما يريدون. النتيجة كانت أعراض شيخوخة أقل في حالات تجويع الفئران وعاشوا لمدة أطول بعكس الفئران الأخرى التي ماتت في مواعيدها التقريبية العادية.
قد تتساءل الآن عزيزي القارئ وتقول بأنه لو كانت النظرية صحيحة لكانت الدول الفقيرة هي من يعيش أهلها بشكل أطول بعكس الحقيقة؟ ولكن ما لم تأخذ لبالك منه هو أن النظام الغذائي المعتدل هو السر وليس في تقليل كمية الطعام بشكل مفرط. الفكرة الأساسية تكمن في دراسة الخلية البسيطة، لأن عند استخدام الخلية للطعام لإنتاج الطاقة تنتج معه الأكسجين. من المعروف أن الأكسجين يعمل على صدأ المواد لأنه مؤكسد لها وله تأثيرات خطيرة على الخلايا أيضاً إن لم تتعامل الخلية مع الأكسجين الناتج. الخلايا تتعامل بشكل جيد في بادئ الأمر مع الأكسجين الناتج ولكن مع تقدم العمر تقل هذه الفاعلية ويحتاج الجسم إلى مواد تلغي الأضرار السيئة الناتجة عن هذا الأكسجين المتراكم. هذا الأكسجين هو من يخرب الدهون والأحماض الأمينية الأساسية في الخلية، مما ينتج عنه أعراض الشيخوخة وذبول الخلايا، وكأنها قد تآكلت. الأكسجين هو نتاج الهضم وإذا قلت كمية الطعام سيقل الهضم داخل الخلايا، ولن ينتج أكسجين بمقدار كبير. وهذا ما حدث في تجربة تجويع الفئران فزادت مدة احتمال الخلايا للأكسجين الأقل المتراكم، فعاشوا أكثر من غيرهم.
تجارب العالم ميشيل كلاس مع حلم الشباب الأبدي
مع مفهوم الأكسدة السابق كان للعلماء أمل في معرفة أكبر للجينات المسئولة عن الشيخوخة للتحكم بها وكسب فرصة للشباب الأبدي. هذا ما قام به العالم ميشيل كلاس في بداية الثمانينيات الماضية، وقد واجه نقداً وسخرية شديدة من مختلف العلماء وعلماء الدين الذين حذروه من البحث في هذا المجال، ورغم ذلك تمكن من إكمال تجاربه بأقل الإمكانيات الممكنة. اختار العالم واحدة من الديدان المدورة، وذلك لأن طولها لا يتعدى الميلمتر الواحد ولن تأخذ حيز من المكان. كما أنها شفافية ويستطيع مشاهدة جميع خلاياها ال957 بالضبط من تحت الميكروسكوب بسهولة. أما الأهم بين مميزات تلك الدودة أنها يمكن أن يضعها في حالة تجمد ويعيد إحياءها بعد عدة سنوات، ولأن دورة حياتها تنتهي بعد 21 يوماً فقط. قام العالم بإعطاء الديدان مركب الايتيلميثان سولفونات، وهو مركب يقوم بعمل تحفيز للحدوث طفرات بداخل الخلايا. النتيجة كانت الحياة المديدة بمقدار 65% أو حتى 200% بالنسبة إلى الديدان المطفرة. وهذا أثبت ولأول مرة أن الجينات تتحكم في أعراض الشيخوخة ويمكن التلاعب بها. إلى إن العالم لم يهتم به أحد واضطر أسفاً إلى وقف أعمال أبحاثه لعدم توافر الأموال، وأدخل ديدانه في ثبات وحالة تجمد.
استكمال حلم الشباب الأبدي
عام 1988 استكمل العالم توماس جوهانسون تجارب الديدان لصديقه العالم ميشيل، ليكون بعد ذلك أهم عالم في هذا المجال بفضل اكتشافاته الجديدة. أكمل دراسته على الجينات المتغيرة بالديدان التي عاشت لفترة أطول، واستخدم أبسط قوانين الوراثة الجينية لاستنتاج أن أعراض الشيخوخة تتحكم بها جين واحد فقط أسموه “age 1” وليس عدد من الجينات كما كانوا يعتقدون. بعام 1996 زادت الاكتشافات حول هذا الجين حتى وجدوا أنه مرتبط بمادة بروتينه تسمى “daf-16” وهي مادة لها تدخل واضح في عمل أو توقف وظائف الحمض الأميني من خلال الجينات. ثم بعد ذلك تم اكتشاف قطع تيليمور، وهي قطع تقصر كلما حدث انقسام خلوي إلا أن تصبح غير مستقرة، وأنزيم تيلوميراس هو القادر على إعادة تخليق هذه القطع، وبهذه الطريقة يعطي صفة الخلود والشباب الأبدي إلى الخلايا الجذعية، مما يعني إمكانية قدرتنا على توظيف هذه الاكتشافات في صالح حلم الشباب الأبدي وتحدي الشيخوخة عند الإنسان.
إذاً سنواجه سؤالاً أهم، ما هي الشيخوخة؟
هذا السؤال عندما أجاب عليه العالم ميدوارس حصل على جائزة نوبل. وقد تكون الإجابة أبسط مما نتخيل وأمام أعيننا ولكننا لا نراها. الإجابة تكمن في تطور المراحل العمرية للإنسان وتكاتف خلايا الجسم كله في تأهيل الجسم ليناسب تلك المرحلة العمرية. بحيث يظل الجسم كله يعمل في اتجاه النمو حتى يصل لقمة نومه بعد مرحلة البلوغ الجنسي ثم يتوقف. وهنا يبدأ الجسم في توزيع مختلف الموارد، ويصرف النظر عن إصلاح الأضرار التي تواجه الجسم. ونحن لا نعيش في عالم بدون تحديات فلن ننسى العوامل الخارجية والتي يظل الجسم يحاربها حتى سن البلوغ ومن ثم لا يجد الطاقة اللازمة للاستمرار في تلك المواجهة، فتبدأ الخلايا بالإعياء. ولكن ذلك ما لا ينطبق على الخلايا الجذعية لأنها الخلايا الوحيدة الأصلية من فترة ما قبل البلوغ، والقادرة على إعادة خلق الخلايا المتضررة من أي عضو يحتاج لها وكأنها مخزون للجسم في فترات الجفاف. والآن تتم الدراسة على كيفية استخدام وتوظيف تلك الخلايا في معالجة السرطان والشيخوخة والأمراض المستعصية الأخرى، وحينها فقط سنصل إلى الشباب الأبدي.
هذه الفكرة تفسر أمراض المناعة الذاتية التي تواجه الجسم في السن المبكر، بحيث يكون الفرد ما هو إلا ماكينة خلايا جنسية ولا يجد الموارد اللازمة لإصلاح ذاته من الداخل، فيبدأ الجسم بمواجهة نفسه. ومن هذه النظرية نستنتج أنه كلما كانت العوامل الخارجية أصعب والحالة فقيرة وهناك تحديات كثيرة، زادت سرعة الوصول إلى البلوغ الجنسي مبكراً وذلك للحفاظ على غريزة البقاء لأن الجسم يفهم أن عمره قصير ويجب أن يبلغ بسرعة وبالتالي يموت بسرعة. أما لو كانت العوامل مريحة والتحديات الخارجية أقل فسنجد أن الوصول إلى مرحلة البلوغ جاء متأخراً أو في المعدل السليم، فيجد الجسم راحته للاستخدام الموارد في إصلاح أضرار الخلايا ويعيش أطول في شباب أبدي. وهو بالفعل ما نراه اليوم على المستوى العالمي بعدما حلت الكوارث على كوكب الأرض وأصبح مكان غير أمن وغير صحي في أغلب بلاد العالم خاصة الفقيرة منها، وانتشار الأمراض وغيرها من العوامل الخطيرة. لنجد معها ارتفاع كبير في حالات البلوغ المبكر، فلو قارنا بين القرون الماضية وعالمنا الحاضر سنجد أن الإنسان سواء ذكر أو أنثى يبلغون أسرع مقارنة بالماضي بفرق خمس أو ستة سنوات كاملة.
سنأخذ الفئران والخفافيش كمثال للتوضيح أكثر. فالفئران تعيش حياة قصيرة مليئة بالتحديات اليومية والمهددة لحياتهم، فتجدهم وبدافع غريزة البقاء بلغوا أسرع وتزاوجوا كل مدة قصيرة لينجبوا الكثير من الفئران. أما الخفافيش فتعيش حياة أكثر هدوءًا وأقل تحدياً فتبلغ متأخرة ولا تنجب سوى مرة أو اثنتين في حياتها. الفرق هنا أن الخفافيش تعيش 30 سنة في المتوسط أما الفئران فتعيش سنتين أو ثلاث بالكثير. وإن طبقنا الفكرة على الإنسان سنجد أن حلم الشباب الأبدي ليس مستحيلاً.
حيوان يملك الشباب الأبدي
هل هناك كائن تطور لينفذ الكلام السابق واقعياً؟ نعم يا عزيزي وهو الكائن الذي تنصب عليه الدراسات حالياً لأنه وبالفعل يملك الشباب الأبدي مقارنة بمختلف الكائنات على الأرض. هذا الكائن من نوع قناديل البحر والمسمى “”Turritopsis Nutricula وهو لا يتعدى الخمسة سنتيمترات في الحجم. هذا الكائن لم يكن يملك موطناً سوى في غرب الهند، ولكن في الآونة الأخيرة لاحظ العلماء انتشاره بشكل كبير في كل محيطات العالم فجأة وكأنه قرر الاستيلاء على العالم، ويتكاثر ليصبح هناك خطراً منه بسبب انفجاره السكاني الغريب. هذا الكائن قادر على إعادة الشباب لنفسه حتى بعد مرحلة بلوغه جنسياً، بفعل نفس الخاصية للخلايا الجذعية، ليصبح قادر على تجديد الخلايا على الدوام ولا يتعرض للموت سوى من العوامل الخارجية. وهو اليوم يستعمر المحيطات في صمت. إلا إن العلماء يعتقدون أن تلك الخاصية لم يكن يملكها سوى من فترة قصيرة كنوع من التطور وإلا لماذا لم يكن معروف سوى في منطقة واحدة بالعالم؟
ومن خلال هذا الاكتشاف وغيرها الكثير سيتمكن الإنسان من إيجاد طريقة للحفاظ على الشباب الأبدي بدون الحاجة إلى الطفرات الجينية غير متوقعة النتائج، ولكنه فقط سيحفز خلايا جسده على الاستمرار والتجديد المستمر. وهناك من يؤمنوا بتلك القدرة للإنسان في المستقبل القريب مثل المخرج الشهير لأفلام الأنيميشن “والت ديزني” الذي أوصى باحتفاظ بجسده في حالة تجمد إيماناً منه بأن العلم قادر على إعادة إيحائه. ولكن سيبقى السؤال الفلسفي الأهم، هل بعد الوصول إلى الشباب الأبدي سيجد الإنسان هدفه في الحياة، أم أن الموت هو من يعطي للحياة معنى؟
أضف تعليق