تسعة
الرئيسية » اعرف اكثر » منوعات » كيف صعدت الديمقراطية في روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي؟

كيف صعدت الديمقراطية في روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي؟

الإمبراطورية الروسية العظيمة، الاتحاد السوفيتي، الجمهورية الروسية الاتحادية، 3 أسماء تغيرت على مر الزمان خلال الحقب السياسية المختلفة لبلد وحيد وهي روسيا، بدأت بالحكم الإمبراطوري وانتهت بالجمهورية الديمقراطية، ولكن كيف صعدت الديمقراطية في روسيا ؟ وهل هناك ديمقراطية في روسيا حقا؟

الديمقراطية في روسيا

قبل سنوات ربما كانت عبارة الديمقراطية في روسيا أمرًا غريبًا، بداية ربما لم تنشئ تلك المكانة الاقتصادية والسياسية الكبيرة التي تحتلها الدولة الروسية في العالم اليوم من الفراغ، روسيا تعد من أكبر الدول في العالم، من حيث المساحة أولا تمتلك روسيا أكبر شريط حدودي بري وأكبر حدود بحرية مشتركة مع دول مجاورة، لكن هذا أيضا لم يكن السبب الرئيس للزخم الرهيب والقوة الكبيرة التي تتمتع بها روسيا اليوم وتوجه الدفة بها في الكثير من القضايا والصراعات في العالم اليوم. فالنظام السياسي بشكل أساسي كان المتحكم في الوضع الذي تحظى به روسيا منذ القدم، فتدخل الإمبراطور نيقولا الثاني في الحرب العالمية الأولى على سبيل المثال وأخذه صف الصرب والدفاع عنهم ضد اعتداء دول المحور آن ذاك كان قرارا مهما من وجهة نظر الإمبراطور لأسباب قومية بالأساس، لكن تلك الحرب كانت القشة التي قوضت حكم الإمبراطور وعائلته وإعلان الدولة الروسية الاشتراكية السوفيتية. الديمقراطية في روسيا تعد جنين حديث الولادة فلم يمضي الكثير من الوقت على سقوط الاتحاد السوفيتي واستقلال دول الاتحاد السوفياتي وقيام الجمهورية الثالثة في روسيا إذا أمكن أن نطلق عليها هذا الاسم.

الحكم الإمبراطوري في روسيا

الديمقراطية في روسيا الحكم الإمبراطوري في روسيا

كان الإمبراطور نيقولا الثاني هو الحاكم الأخير من سلالة عائلة رومانوف الإمبراطورية وفي عهده كان حلم الديمقراطية في روسيا محض خيال للشيوعين وللحركات الليبرالية، تولى الإمبراطور نيقولا الثاني الحكم بعد وفاة أبيه الإمبراطور ألكسندر الثالث منذ عام 1894م وحتى العام 1917م، ابتدئ عهده بإصلاحات اقتصادية متنوعة كان الهدف منها تطوير الاقتصاد وترقية الحياة الاجتماعية، لكن ذلك الغضب الجارف وسط الجماهير وخصوصا الطبقات الوسطى التي لها انتماءات يسارية اشتراكية والتي ساهمت كثيرا في تغيير الأوضاع وتحريك المشهد السياسي في أكثر من موضع، والتي كان أهم أحداثها حادثة “الأحد الدامي” التي وقعت في بدايات عام 1905م؛ بعد توجه لفيف من المتظاهرين السلميين إلى قصر القيصرية الروسية ليرفعوا إليه مطالبهم العادلة، لكن سلميتهم لم يواجهها إلا رصاص الحرس الإمبراطوري في مشهد مخزي ومتوحش قتل فيه ما يقارب 4000 متظاهر أعزل. تلك الحادثة خصوصا كانت الشرارة التي أطلقت الثورة الروسية 1905 – 1907.

بدأت الثورة الروسية بموجة من التظاهرات الواسعة التي نتج عنها الكثير من الأزمات السياسية في الشارع، وحملت للمرة الأولى بشكل واضح شعارات سياسية مناهضة لحكم الإمبراطور، شملت تلك التظاهرات حركة إضرابات عمالية واسعة نادت بعض مطالبها بالإصلاح الاجتماعي ووصل بعضها إلى عزل الإمبراطور وتطبيق الديمقراطية في روسيا وجعل نظام الحكم اشتراكي بحت، هذا بدوره جعل الإمبراطور يسارع إلى تهدئة الشارع والشروع في إجراء إصلاحات سياسية؛ خصوصا بعد وجود حركة من العصيان العسكري في الجيش، كان القرار الأهم نتاجا لتلك الأحداث هو كسر شوكة الإمبراطور وتقليص سلطاته، وإنشاء نظام الملكية الدستورية؛ وهو نظام أقل في الصلاحيات عن النظام الملكي المطلق حيث يخضع الملك لدستور مكتوب وتشاركه في الحكم سلطات مدنية أخرى في أغلب الأحيان. لم يتوقف الأمر على الدستور الذي تم وضع بل أيضا نشئت حياة نيابية فيما يعرف باسم مجلس الدوما الإمبراطوري والذي كان مجلس نواب استشاري للإمبراطور وأيضا وجود تعدد حزبي في الفضاء السياسي الروسي.

الثورة البلشفية وقيام الاتحاد السوفيتي

الديمقراطية في روسيا الثورة البلشفية وقيام الاتحاد السوفيتي

قام الاتحاد السوفيتي كنظام حكم اشتراكي شمولي قبل صعود الديمقراطية في روسيا في أواخر القرن العشرين. وحسب التاريخ فأن فترة الحكم الفعلية للاتحاد السوفيتي كانت من 1922 إلى 1991، لكن الأمر مر بالعديد من التطورات وأهمها:

الموجة الثورية الأولى وإسقاط الإمبراطورية

مع بداية الحرب العالمية الأولى وفي أوج الغضب الشعبي على الإمبراطور، انقسمت الجماهير لفرقتين الأولى طالبت بتنظيم صفوف الجماهير وتوجيه ضربة قاصمة أخرى لنظام الحكم، والثانية قامت بتأييد الإمبراطور في دخول الحرب لدوافع قومية بحتة وهي دعم السلافيين الصرب ضد العدوان الألماني ضدهم. في البداية على الصوت الوطني على المصلحة الداخلية للجماهير وانضم الكثيرون للحرب والدفاع عن صربيا، لكن في الأخير أنتصر التيار الأول الداعم للتغير في الداخل نظرا لطول مدة الحرب وتفاقمت المشاكل الاقتصادية حدة نتيجة للحرب ناهينا عن الهزائم والخسارة الفادحة التي تكبدها الجيش الروسي في أكثر من معركة في الحرب. ذلك الشعور العام بالإحباط وشح الموارد وانتشار الفقر والسرقة بطريقة فجة جعل الموجة الأولى من الثورة الروسية تنطلق في 23 فبراير 1917، كان الحراك الأول شعبي خالص بدون قيادة إنما ناتج عن غضب شعبي وانعدام الثقة في الإمبراطور وحكمه.

تجمع الجماهير بشكل عشوائي من مختلف الأطياف وكانت البداية للجماهير التي تنتظر في طوابير الطعام التي أخذت بالتمرد والمناداة بالخبز ورفض الجوع والفقر، سرعان ما انضم إليهم العمال والنخب الثقافية ذات الطابع الاشتراكي وبهذا نشئت حركة إضراب عام وعصيان مدني. حاول الإمبراطور تدارك الموقف وإيقاف الأمر عند حده، أصدر أوامر للشرطة المحلية بقمع المظاهرات لكن هذا لم يفلح ولم تصمد الشرطة كثيرا أمام غضب الجماهير، بل أن كثيرا من أفراد الجيش انضموا للجماهير ودخلوا مواجهات مباشرة مع الشرطة مما رجح كفة الجماهير. أجبر الإمبراطور على التنازل عن الحكم في 13 مارس 1917 وفوض أخيه ميخائيل رومانوف إلى تولي الحكم وتم الأمر بتشكيل حكومة انتقالية مؤقتة خصوصا بعض رفض الجيش تولي الحكم تحت نظام ديكتاتوري. سرعان ما تم عزل أسرة الإمبراطور بالكامل وسجن الإمبراطور نفسه.

الموجة الثورية الثانية والحكومة المؤقتة

بدأ حلم الديمقراطية في روسيا يصعد من جديد وبدأت البلاد تتنفس الصعداء، لكن الحراك الثوري لم يتوقف عند تلك النقطة بل ازداد سخط الجماهير حدة حتى بعد وجود الحكومة المؤقتة، ولكن الوعود التي قطعتها الحكومة للحلفاء بالإبقاء على التحالف والاستمرار حتى الانتصار في الحرب جعلت الجماهير تنظم الكثير من التظاهرات الرافضة للحرب، كانت القوة المحركة في تلك المرحلة هي السوفيتات العمالية والتي ستتملك السلطة لاحقا؛ السوفيتات هو مصطلح روسي يصف النقابات العمالية والمجالس المحلية التي كان يسيطر على أغلبها البلاشفة. ازدياد الضغط الشعبي أجبر الحكومة المؤقتة على التراجع عن قرار الحرب، ولكن أحد قادة الجيش الجنرال كورنيلوف حاول الانقلاب على الحكم محاولا استكمال الحرب والإصرار على الانتصار ولذا قام بالزحف للعاصمة، مما أجبر الحكومة المؤقتة إلى اللجوء للبلاشفة لصد الزحف على المدينة ووقف التمرد، وهو ما نجح فيه البلاشفة وحلفائهم وهو ما أعطى لهم تأييد شعبي كبير فيما بعد حيث تمكنوا من اكتساح انتخابات النقابات العمالية (السوفيتات).

نتيجة لذلك ارتأى البلاشفة أنه نظرا للظروف الكارثية التي تمر بها البلاد من تدهور للاقتصاد وانتشار الفساد المجتمعي كان لابد من التدخل لقيادة روسيا نحو الحكم الشيوعي الاشتراكي بقيادة السوفيتات أو النقابات العمالية، في أكتوبر من العام 1917 أعلن السوفييت الثورة المسلحة على الحكومة المؤقتة واستولوا على الحكم واتخذوا العديد من القرارات المهمة والخطيرة في آن واحد حيث قاموا بتأميم كثيرا من الملكيات الخاصة والأراضي والبنوك، وجميع ممتلكات الأسرة الحاكمة، كما أقروا بعض قوانين الإصلاح الاجتماعي من إعادة توزيع الأراضي على الفلاحين وكذلك رفع الدخل للعمال، وبهذا يعتبر الإعلان الأول لتولي الشيوعيين الحكم بقيادة فلادمير لينين.

الحرب الأهلية الروسية وقيام الدولة السوفياتية

الديمقراطية في روسيا الحرب الأهلية الروسية وقيام الدولة السوفياتية

النتائج التي سببها وجود البلاشفة في سدة الحكم أحدثت انتصارات للطبقة الكادحة والبروليتاريا، ولكن على النقيض سببت الغضب لدى الجانب المناهض للثورة أو ما يعرف بالثورة المضادة والتي لا تتمنى رؤية أي فرص لصعود الديمقراطية في روسيا وكل همها كان ينصب في إعادة الإمبراطور لسابق عهده، وهو ما دفع البلاد للدخول في حرب أهلية، ارتأى فريق عريض من الشعب أن حكم الإمبراطور أمر مقدس ومستحق ويجب أن يستمر أيا ما كانت التكلفة وأطلق عليهم لفظ الروس البيض وكانت مواجهتهم مع الكتائب الحمراء السوفيتية المؤيدة للثورة والرافضة للإمبراطور. لم يقتصر النزاع على الأطراف الداخلية، لكن تراجع السوفييت عن دعم دول الحلفاء في الحرب العالمية الأولى دفعهم للتآمر على الثورة ومحاولة زعزعة نظام السوفييت، لم تكن دول الحلفاء ضد قيام الديمقراطية في روسيا بشكل محدد، ولكنهم ناهضوهم لتبرئهم من الديون الخارجية التي وضعهم فيها الإمبراطور وكذلك لأجل الانسحاب من الحرب وأيضا لاختلاف الأيديولوجيا الشيوعية مع أيدلوجية تلك الدول الرأسمالية، فالشيوعيين كانوا يعادون أغلب النظم الرأسمالية الإمبريالية الأوروبية في بداية القرن الماضي. زادت حدة التوتر مع وجود الدعم الخارجي للبيض في مواجهة السوفييت.

ولكن سرعان ما انتهت الحرب في عام 1918 وأنحصر الدور الخارجي ومن ثم استطاع السوفييت إدارة الصراع خارج العاصمة إلى أن انتهت الحرب تماما بعد سبع سنوات مخلفة ورائها خراب كاد يدمر الاقتصاد السوفييتي بعد أن قضى على أغلب الأراضي المزروعة والقوة الصناعية للدولة، لذا كان تحدي السوفييت بعد انتهاء الخطر هو إعادة بناء الدولة وتثبيت دعائم حكمهم وهو ما حاولوا فيه جاهدا وهو ما دفعهم لعسكرة الدولة لتقوية الدفاع عن الدولة السوفيتية ضد الأخطار الخارجية وتدريجيا تم تدارك الاقتصاد واحتواء الأزمة بشكل ما.

انهيار الاتحاد السوفياتي وقيام روسيا الاتحادية

قام الاتحاد السوفياتي بالرغم من كل المصاعب الداخلية والمؤامرات الخارجية وأستطاع في وقت قليل إرساء نفسه كقوة عالمية فاعلة شكلت في منتصف القرن الماضي الضلع الأهم فيما يعرف باسم المعسكر الشرقي الذي ضم الصين وكوريا وغيرها من الأمم التي تبنت الفكر الشيوعي في بناء دولتها وكانت حربهم الضروس مستمرة مع المعسكر الغربي الذي يتشكل من أمريكا وأوروبا والدول الرأسمالية الصناعية بشكل عام. ابتدأ الأمر بمناورات تجسسية من هنا وهناك حتى بعد انتهاء الحرب الأهلية الروسية، لكن الحرب دخلت في مرحلتها الحقيقية مع بداية الحرب الباردة وأحداثها الشهيرة مثل أزمة الصواريخ الكوبية، فأثناء الحرب العالمية الثانية اضطر السوفييت للمرة الأولى والأخيرة إلى الاتحاد مع دول الغرب من أجل مواجهة هتلر وجنونه النازي بعد أن نقض الأخير معاهدة السلام التي أجراها الأخير مع ستالين رئيس الاتحاد السوفيتي.

بدأت بوادر الحرب الباردة بين قطبي العالم في ذلك الوقت تظهر بعد القضاء على حكم هتلر، بدأ الأمر بتقسيم ألمانيا وحتى العاصمة برلين جزء شرقي شيوعي شمولي يحكم بالحديد والنار ويتجسس على جميع مواطنيه وجزء غربي أخذ الدور في تدعيم التجربة الديمقراطية في روسيا بشكل حقيقي. في العام 1989 سقط جدار برلين الذي بناه السوفييت في ستينات القرن الماضي لعزل الجزء الغربي من المدينة عن الجزء الشرقي وتقليل معدلات الهجرة من ألمانيا الشرقية والذي كان يعد رمزية لسقوط الدولة السوفيتية، ولكن للشيوعية قصة معروفة في أمر سقوطها.

بعد وصول الرئيس الأخير للاتحاد السوفياتي ميخائيل جورباتشوف يعتقد الجميع بأنه كانت هناك نية مبيته لإنهاء الحرب الباردة مع أمريكا وكذلك تقويض الاتحاد السوفيتي وإعطاء دوله سلطة الحكم الذاتي، وكذلك دعم صعود الديمقراطية في روسيا، المرحلة التي تولى فيها جورباتشوف الحكم كانت عصيبة أكثر من أي وقت مضى فمع ارتفاع معدلات التضخم وتفاقم الأزمات الاقتصادية قطع جورباتشوف الكثير من الوعود بالإصلاح الاقتصادي، بدأ الأمر بما يعرف بسياستين رئيسيتين وهما (بيرويستروكا) (وجلاسنوست)؛ والتي وضعا لإعادة الهيكلة الاقتصادية وإرساء سياسة الشفافية والانفتاح في جميع المؤسسات وحرية الحصول على المعلومات بهدف حصر الفساد. كما ألغى الدور الدستوري للحزب الشيوعي الحاكم وصاحب ذلك متنفس أكبر للحريات وتحسن للمناخ السياسي بشكل عام. في العام 1991 ترك جورباتشوف المنصب ومع تولي الرئيس الجديد بوريس يلتسن تم توقيع اتفاقية استقلال دول الاتحاد السوفيتي وتمتع دولها بحكم ذاتي.

التحول الديمقراطي في روسيا

بدأت الديمقراطية في روسيا في عهد الرئيس بوريس يلتسن، حيث أعلنت روسيا كجمهورية اتحادية غير شيوعية، وكانت فلسفة يلتسن من البداية قائمة على الانفتاح الاقتصادي وتطبيق النموذج الرأسمالي والسوق المفتوح وكذلك تدعيم التجربة الديمقراطي في روسيا، لكن تلك السياسة وطريقة تطبيقها السيئة دفعت بالاقتصاد للهوة كما حدث في التجربة المصرية في عصر الرئيس محمد أنور السادات، فالأموال تكدست في جيوب المستغلين الذين يستغلون الأزمات ونتيجة لضعف دور الدولة في مراقبة عملية الانتقال الاقتصادي وفشل أسلوب الصدمة في التحول من الاشتراكية للسوق المفتوح، ازداد التضخم بشكل رهيب وألقى على عاتق الطبقات الفقيرة والمتوسطة عبئ كبير خصوصا مع سياسة الخصخصة وتحرير سعر الصرف ورفع الدعم. أدت كل تلك المشاكل لتصاعد حدة التوتر بين يلتسن ومؤسسات الدولة ومعها الجماهير مما اضطره إلى تقديم استقالته في عام 1999 ليفشل حلم الديمقراطية في روسيا في أولى تجاربه ويتولى بعدها الرئيس الحالي فلادمير لينين إدارة البلاد لفترة مؤقتة حتى يتم انتخابه لولاية أولى في عام 2000.

بوتين والديمقراطية الموجهة

الديمقراطية في روسيا بوتين والديمقراطية الموجهة

كان بوتين في بدايته تجربة جديدة من مخرجات التجربة الديمقراطية في روسيا، ربما قد يختلف البعض مع طريقة الرئيس فلادمير بوتين أو مع قرارته السياسية وطريقته في مواجهة خصومه، وربما يصرح الكثيرين بأن بوتين قد قوض التجربة الديمقراطية في روسيا تماما وأنهى على ما تبقى منها، لكن من الصعب على الناظر للأمر بحيادية ألا يحترم عقلية بوتين وحنكته السياسية. كما قلنا فأن بوتين أتى كحاكم مؤقت بعد استقالة يلتسن في عام 1999 ولكنه أتى بانتخابات كانت أكثرها ديمقراطية في روسيا وبنتيجة كاسحة. التجربة الديمقراطية في روسيا في عصر بوتين حملت كل أنواع التناقضات للفضاء السياسي الروسي فبالرغم إقراره بنظام الديمقراطية في روسيا وإقراره بتداول السلطة ألا أنه لم يقدم إلا نموذجا للديموقراطية الموجهة أو صورة أخرى من صور الديكتاتورية المقنعة، فمع وجود نظام اقتراع قائم على الديمقراطية في روسيا، يقال إنه هذا النظام أصبح ظاهري بعد اتهامات بتزوير نتائج انتخابات عامي 2012 و2018، ألا أن ممارسة الديمقراطية في روسيا لدورها الأساسي في مؤسسات الدولة والفصل بينها غائب تماما.

بدأ عصر بوتين بتعتيم كامل على الحريات وتم ترهيب منظمات المجتمع المدني وتقليص صلاحيتها وكذلك إسكات الأصوات الإعلامية المعارضة، ولكن ذلك أيضا تزامن مع موجة انتعاش اقتصادية غير مسبوقة، ففي فترة حكمه الأولى استطاع بوتين في واقعة غير مسبوقة بتحقيق نمو اقتصادي ملموس في فترة زمنية قصيرة. النظام الاقتصادي الذي اتبعه بوتين كان نظاما ليبراليا اقتصاديا أو ليبراليا كلاسيكي مع الاحتفاظ بالتيمة الشمولية السياسية في الحكم تماما مثلما فعلت الصين الشعبية بعد أزماتها الاقتصادية الناتجة عن تطبيق المذهب الشيوعي الاقتصادي. يقوم المذهب الليبرالي الكلاسيكي على الاقتصاد الحر الذي لا تتدخل فيه الدولة ولكن آليات التطبيق كانت أكثر دقة وذكاء في حالة بوتين، وهو ما قلص الحريات الاجتماعية والسياسية بشكل يقترب من النظام الشيوعي القديم للدولة السوفيتية. نتج من ذلك انخفاض حدة المعارضة ضد بوتين بشكل يكاد يصبح غير موجود نظرا لأن بوتين شرس للغاية مع معارضيه وقلما يوجد في الوقت الحالي من أحد قد يشكل خطر عليه، فمعارضوه الخطرين أما مسجونون أو تم قتلهم في ظروف غامضة وهناك العديد من الحوادث تحكي ذلك. كل تلك القرائن بدورها أرخت ستار من عدم الشفافية والفساد داخل المؤسسات الروسية وخلخلت التجربة الديمقراطية في روسيا بشكل كبير.

بكل الأحداث التي تمخضت فيما سبق والتي أنتجت النظام البوتيني الذي يستمر في الحكم لأكثر من 18 عام مضت، يمكننا أن نشير بشكل ما أن الديمقراطية في روسيا قد تقوضت أما بتزييفها وتوجيهها لأجل مصلحة مجموعة من الأفراد تصب بدورها في مصلحة فرد واحد في الأخير، فبوتين تولى الحكم لفترتين رئاسيتين متتاليتين من 2000 حتى 2008، واستغلالا للنجاح الاقتصادي الذي حققه مجتمعيا ودعم الشعب له فقد قام بوتين بلعبة سياسية بها الكثير من الحنكة، فبدلا من الغياب من المشهد السياسي طبقا لقانون روسيا الذي ينص على عدم وجوب تولي الحكم لفترة رئاسية ثالثة، تحايل بوتين على نظام الديمقراطية في روسيا، وقام بتولي رئاسة الوزراء في حكومة الرئيس دميتري ميدفيديف الذي تولى الحكم من 2008 حتى 2012 ليعود بعدها بوتين كرئيس للجمهورية في 2012 مع مدة رئاسية أكبر بواقع 6 سنوات للفترة الرئاسية الواحدة بدلا من 4، وتولى الرئيس السابق ميدفيديف رئاسة الوزراء من وقتها حتى وقتنا الحالي، بهذا استطاع بوتين التنصل من الاتهامات المباشرة بتقويض الديمقراطية في روسيا وكذلك التحايل على الدستور الروسي. بوتين لم يكتفي بفترته الثالثة لكنه ترشح في بداية 2018 في انتخابات يقال إنها تم تزويرها ليظل بذلك في سدة الحكم حتى عام 2024، وهكذا يمكننا أن نقول أن التجربة الديمقراطية في روسيا تم تقويضها على يد الرئيس الثاني لروسيا الاتحادية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي فلادمير بوتين.

في الأخير فأن قصة الديمقراطية في روسيا تحتاج للكثير من الفحص والبحث عن أصولها وتبعات الأحداث السياسية التي حدثت في التسعينات والذي ولد ذلك الانقسام على الذات بين الحالمين بعودة روسيا السوفيتية وهؤلاء الآخرون الحالمون بصعود الديمقراطية في روسيا، فجورباتشوف الرئيس الروسي السابق الذي أنهى كيان الاتحاد السوفيتي قال في أحد اللقاءات الصحفية أن بوتين قضى على الديمقراطية في روسيا وأخصاها تماما، لكنه بالطبع لم يستطع غض الطرف عن الإصلاحات الاجتماعية أيضا، ولكنه لخص الأمر كله بجملته الأخيرة حينما قال “إن نظام بوتين يمثل الاستقرار والهدوء لروسيا لكن الاستقرار قاتل وحينما يقتل يبدأ بالتنمية”.

باسل قطب

كاتب ومدون مصري، مؤمن بالإنسان وبكل ما ينتجه من معرفة وأدب، مهتم بالكتابة في الثقافة والسينما والحياة

أضف تعليق

خمسة × 2 =