الديمقراطية هي إحدى المفاهيم التي نشأت في مدن اليونان القديمة في رحاب الحضارة الإغريقية، وهي تعتبر حديثة العهد نسبيا، وذلك بحسب عمر الإنسان الطويل على الأرض، والذي يصل في بعض التقديرات إلى أربع ملايين سنة. ثم إننا إذا تجاوزنا عمر الإنسان على الأرض، فإن مفهوم الديمقراطية يعد مفهوما حديثا أيضا بالنسبة إلى عمر الحضارة الإنسانية -التي تصل بعمرها في بعض التقديرات إلى نحو عشرة آلاف سنة- ومن ثم نشأة المجتمعات الإنسانية وقيام الدولة ونشأة مفهوم الحكم والسياسة.
تعرف عن قرب على فكرة الديموقراطية
بين الطبيعة الإنسانية وضرورة الحكومات
لم تنشأ الديموقراطية هكذا فجأة بمجرد قيام الدول والحكومات، وإنما ظلت الجماعات الإنسانية طويلا في محاولة دائبة للبحث عن السبل المثلى التي تؤدي بها إلى لون من ألوان الاستقرار الاجتماعي والسياسي، والذي يلبي لها أغراضها ويشبع حاجاتها من دون عناء وفي غير مشقة. وهي في سعيها هذا بلت قليلا وابتُليت كثيرا واكتوت بنيران الظلم والقهر والاستبداد أكثر الأمر.
والسؤال الذي ربما يتبادر إلى الأذهان الآن: ولمَ تبحث الجماعات عن نظام للحكم بالأساس؟ لمَ تبحث عن حاكم؟ أليس في التحرر من صور الحكم بشتى أشكاله راحة وحرية للإنسان؟ أليست هذه الحرية كفيلة بأن تكف الإنسان عناء الوقوع تحت قبضة حاكم من الغيب يأتي، وله من تصريف الأمور ما يتناسب وهواه وكيفما تراءى له؟ لمَ كل هذا النضال؟!
وللجواب على كل هذه التساؤلات نقول الآتي: إن الإنسان في أولى خطواته في هذا الوجود كان بالفعل بلا حاكم وبلا أنظمة للحكم -قد تنصفه حينا وتسحقه غالب الأحيان. لكن هذا الإنسان كان لا يزال الكهف له سكنى والغابة له مأوى يعتاش على الطبيعة البكر، يقتات مما تنبته له الأرض وما تجود له به البيئة، وما عليه لمواكبتها إلا التنقل والترحال حيثما اتفق له من أغراض تقدمها له بيئة أخرى اعترضت طريقه في بحثه عن المأكل والمشرب.
نقطة تحول في مسيرة الإنسان
وعندما ضاقت الأمكنة والبيئات، ونضبت البيئة وشحّت الطبيعة عن أن تجود بما يحتاجه منها الإنسان الأول، ليس هذا فحسب، بل عندما بدأت الطبيعة أيضا تواجه الإنسان بألوان أخرى من الصعاب وضروب من التحديات: هجوم حيوانات مفترسة، صواعق تحرق الغابات التي يقطن فيها هذا الإنسان.. إلخ، تطلبت جُماع هذه التحديات تضافر الجهود لمواجهتها، مما اضطر الإنسان آنذاك اضطرارا لأن يخرج عن أناه التي ما عادت تكفيه لمواجهة هذه التحديات التي تفرض نفسها عليه وعلى كل من يشاركه ذات البيئة من البشر. هذا التضافر للجهود أخرج الإنسان من حالته الفردية ليكتشف البعد الاجتماعي له. ورغم اكتشاف هذا البعد الاجتماعي في الإنسان، إلا أن الإنسان لم يبرح أنانيته بعد، هي تهذبت كثيرا مع الزمن، لكن خروج الإنسان إلى الجماعة وتفاعله معها ما كان إلا ضرورة تكيفية تهدف إلى إشباع حاجات الأنا الأساسية.. من هنا كان لابد من ضبط وربط وحزم وتلجيم وكبح لجماح كل هذه الأنوات التي ترغب بإعلاء ذاتها والشب عن طوق المجموع.. ومن هنا كانت الحاجة ملحة لوجود فرد ترتضيه الجماعة ليقوم بلملمة وحزم وتوجيه هذه الجهود والدفع بها نحو صالح الجماعة وما يشبع حاجاتها. من هذه الحاجة نشأت الدول، وقامت الحضارات، وبدأ الإنسان مرحلة جديدة من حياته أدت به إلى ما آل إليه من التهذيب والارتقاء. وفي مرحلة متأخرة جدا من عمر البشرية، وفي مكان وظروف ما، نشأت الديمقراطية كنظام للحكم.
مصطلح الديمقراطية
نشأ مصطلح الديمقراطية في اليونان، وهي كلمة مكونة من شقين: (زيموس، وتعني شعب)، و(كراتوس، وتعني حكومة). وتركيب الشقين يعني حكومة الشعب لنفسه. وقد كانت أثينا أول المدن اليونانية التي شهدت تطبيق الديمقراطية، وقد كانت الديمقراطية علاجا ناجعا آنذاك لكثير من الآفات السياسية والاجتماعية في أثينا، ثم ما لبثت أن أضحت سببا في العديد من الآفات الاجتماعية والسياسية.
ظروف نشأة الديمقراطية
ولقد كان لليونان القديم من خواص الظروف والأحوال ما جعلها هي الخليقة بحق لأن تكون مهدا للديمقراطية تنظيرا وتطبيقا. فها هي اليونان تخرج من عصورها المظلمة (1100- 800 ق.م) لتقف على عتبة ما سمي بالعصر القديم (800- 480 ق.م)، وقد شهد العصر القديم هذا لليونان تأليف الأبجدية الخاصة بهم وذلك بتعديل وتطوير للأبجدية الفينيقية، ومن ثم ظهرت للمرة الأولى النصوص المكتوبة هناك. وشهدت كذلك ظهور العملة لأول مرة حوالي 680 ق.م، ومن ثم ظهور طبقة التجار وازدهارها هناك. ومما ساعد ازدهار طبقة التجار في اليونان القديم إلى جانب دخول العملة إليها هو موقع اليونان الجغرافي، والذي يسر من سبل التواصل بين المدن اليونانية القديمة عن طريق البحر، ثم إن ازدهار حركة التجار عملت أيضا على اتساع رقعة المدن اليونانية وكذلك عملت على ازدياد تعداد السكان هناك بشكل متسارع ليشكلوا مستعمرات جديدة متحدة الثقافة واللغة في أنحاء اليونان العظمى (والتي ترامت حدودها لأبعد بكثير من حدود اليونان الآن)، لتتوقف الهجرة آخر الأمر في القرن السادس قبل الميلاد لتستقر معها حدود اليونان على ما انتهت إليه من اتساع. ولم تكن تخضع آنذاك هذه المستعمرات اليونانية لنظام حكم سياسي مركزي -بالرغم من احتفاظها بالصلات الثقافية والتجارية والدينية- وإنما عرفت اليونان آنذاك بنظام “دولة المدينة”، والتي كان الحكم فيها للطبقة الأرستقراطية. ونظام دولة المدينة هذا إنما كان ضرورة سياسية بفعل الطبيعة الجغرافية لليونان القديم، حيث ترامي الأطراف عبر البحر المتوسط، وكذلك انتصاب الحدود الطبيعية بين هذه المدن من جبال إلى أراض زراعية شاسعة إلى مسطحات مائية.
وبينما المشهد كذلك، تكتوي أثينا خلال النصف الثاني من القرن السادس ق.م بحكم الطاغية “بيسيستراتوس” وبحكم أبنائه من بعده، وبتحريض من الأرستقراطي “كليسيثنس” ساعد ملك إسبرطة مواطني أثينا على الإطاحة بهذا الطغيان سنة 510 ق.م، وسرعان ما انقلبت إسبرطة وأثينا كل منهما على الأخرى. ومرة أخرى يتدخل في المشهد كليسيثنس، وبحجة إنقاذ أثينا من أن تقع دمية في يد إسبرطة (التي كانت متفوقة عسكريا آنذاك)، أقنع كليسيثنس هذا مواطنيه بأن أثينا تقوم بثورة… حيث يشارك جميع المواطنين في السلطة السياسية! وكان ميلاد الديمقراطية . وكان هذا الحدث كفيلا بأن يكف يد حكام إسبرطة عن أثينا لاختفاء مشهد الحاكم الفرد.
ثم لم يلبث أن نشبت الديمقراطية -كالحريق- في العديد من المدن اليونانية نظرا لصغر مساحات هذه المدن، ومن ثم عدد سكانها، وكذلك لتعدد الخلفيات الثقافية للمواطنين في هذه المدن والتي أعلت من قيمة الفردانية والتعددية على حساب الثقافة الواحدة وبالتالي الرأي الأوحد.
أهم مبادئ الديمقراطية
على أن الديمقراطية لم تستقر في اليونان إلا زهاء القرن ونصف القرن، ثم إنها لم تبرح اليونان إلى أي من جاراتها في العالم القديم، وإنما سرعان ما أوغلت في الانطمار والنسيان. لكن النهضة الأوربية وما استتبعها من أحداث مجلجلة على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والفكري، أدت في نهاية المطاف إلى بعث العديد من فلاسفة التنوير لنظام الحكم الديمقراطي من سباته الطويل، وكان ذلك على مستوى التنظير، والتي على إثرهم قامت الثورة الفرنسية ثم العديد من الثورات في أنحاء أوربا وأمريكا. وكانت هذه الثورات إيذانا ببعث الديمقراطية على مستوى التطبيق اهتداءً بما نظّره فلاسفة التنوير.
وتتلخص مبادئ الديمقراطية في الآتي:
- مبدأ حكم الشعب: إذ يعتبر هذا المبدأ أحد المبادئ الرئيسة والضرورية في الأنظمة الديموقراطية، وحكم الشعب إنما يعد تعبيرا عن سيادة الشعب. ويكون للشعب جميع الصلاحيات، وإلى الشعب ترد جميع الأمور التي تخص قرارات الدولة المصيرية، وذلك عن طريق الممثلين عنه الذين اختارهم الشعب عن حر الإرادة.
- مبدأ التعددية: والتعددية مفهوم يعني ضمنيا تعدد المجموعات والاتجاهات والفِرَق، كما يعني تعدد المنظمات وتعدد سلطات الدولة. تشي التعددية بالتنوع والكثرة والاختلاف للفئات في الدولة، وما يترتب على ذلك هو الاعتراف والإقرار بالآخر من حيث وجوده وآراءه ومعتقداته وجنسه وعرقه ولونه. كما تضمن التعددية لمختلف المجموعات في الدولة حق التعبير عن هذا الاختلاف وحق هذه المجموعات في الانتظام داخل مختلف الأطر التي يرتضونها لتحقيق ذواتهم والتعبير عن أغراضهم وحقوقهم واستدرار مصالحهم وحاجياتهم. كما أنه من شأن التعددية والإقرار بقيمتها إتاحة المجال لمختلف المجموعات في الحفاظ على هويتها الخاصة من غير التفريط في القاعدة المشتركة الموحدة للمجتمع بأكمله. ويترتب على الإقرار بهذه الأحقية للمجموعات المختلفة أن يتاح لها أن تسلك السبل الشرعية والسلمية في التعبير عن نفسها دونما حاجة للانفجار واتخاذ العنف سبيلا إلى ذلك، مما يهيئ التربة الخصبة لاستنبات الجماعات المتطرفة. وتتجلى التعددية في جميع المجلات كالمجال الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي… إلخ. والتعددية هي تعبير عن عناصر مهمة في الديمقراطية:
- الإقرار بحق التنوع والاختلاف بين البشر وبين مختلف المجموعات عن بعضها.
- خلق جو من التوازن بين مختلف سلطات الحكم والمنظمات مختلفة المصالح، وذلك عن طريق توزيع القوة في المجتمع.
- ضمان المنافسة الحرة بين المجموعات المختلفة.
- ضمان الشرعية لصراعات القوى والنفوذ بين الأحزاب.
- مشاركة المواطنين -وتحت مبدأ حكم الشعب- في الحياة السياسية.
- إرساء مبدأ التسامح الذي يعد من دعائم التعددية، إذ أن التسامح يتضمن تمام الاستعداد لقبول واحترام المختلف.
- إرساء مبدأ التوافقية، والذي يعني الموافقة المُجمِعَة على الموضوعات المركزية، وذلك من أجل ضمان بقاء المجتمع والحفاظ على النظام الديمقراطي.
- بهذا، تمسي التعددية هي الاعتراف بالمجموعات المختلفة ذات المصالح المختلفة، مما يسمح بمناخ من التنافس الحر بين المجموعات المختلفة، هذا التنافس الذي يعد شرطا أساسيا لمجتمع ديمقراطي.
مبدأ حسم الأكثرية
وهو المبدأ المرتبط بالمبدأين الأولين، لأن الشعب ما هو إلا مجتمع من الأفراد أتوا من مشارب ثقافية وأيديولوجية مختلفة، كما تضمنتهم مصالح ومآرب مختلفة كل أولئك شملتهم حدود الدولة. ولكي تستطيع كل هذه الجموع على اختلاف مشاربها أن تتعايش معا رغم سعة الاختلافات وتضارب المشارب والمآرب، كان لزاما على نظام الديمقراطية أن يقر لجميع المواطنين داخل حدود الدولة حقوقا متساوية في المشاركة في حسم القرارات المصيرية. وما على الأفراد من مختلف المجموعات -أكثريتها وأقليتها- إلا القبول والإذعان لما ترتضيه الأكثرية؛ فالقرارات في الدولة يحسمها أكثرية المواطنين.
مبدأ تقيد السلطة
ويعد هذا المبدأ من أهم المبادئ التي تقوم عليها الديموقراطية، والهدف منه هو منع بذور الاستبداد والتعسف من مد جذورها في بنية المجتمع السياسية؛ إذ أنه ربما يتسنى للأكثرية الحاكمة -بموجب ما تتمتع به من قوة ونفوذ- أن تبدي شيئا من عدم التسامح أو تنال من حقوق الإنسان والمواطن إلى حد القمع للأقليات داخل الدولة. فقد تتخذ مثل هذه السلطة قرارا بالأكثرية التي تمتلكها -من شأنه إلغاء أحد بنود الديمقراطية، كتأجيل موعد الانتخابات مثلا.
مبدأ سلطة القانون
وهذا المبدأ يعني أن جميع المواطنين داخل الدولة وكذلك سلطات الحكم يخضعون جميعا للقانون الذي سنّته عن طريق سلطة تشريعية منتخبة بطريقة ديمقراطية من الشعب. ومبدأ سلطة القانون من الأهمية بحيث يعبر عن الاتفاق بين جميع المواطنين داخل الدولة، كما أنه تعبيرا عن الاتفاق الضمني على ضرورة وجود إطار قانوني وسياسي مشترك وملزِم لجميع من في هذه الدولة. كما يعبر عن الموافقة بين السلطة والمواطنين الذين تمثلهم هذه السلطة؛ لذا وجب أن يكون القانون من المناسبة بحيث يحمي حقوق الإنسان ويعكس قيم الديمقراطية.
أضف تعليق