الحضارة الفينيقية أو الفينيقيون، هم سكان سواحل لبنان وسوريا الآن، كانوا أسيادًا للبحر الأبيض المتوسط، نافسوا حضارات مثل اليونانية والرومانية في البحر، ووصلوا بتجارتهم إلى أقاصي أوروبا فيما يُعرف الآن بويلز، وإلى أغلب دول أفريقيا، توسعت حضارتهم بشكل كبير حتى شملت مدنًا في سواحل شمال أفريقيا كلها، وعلى الرغم من كل هذا التقدم والسيطرة، لم تصل من آثارهم ومقابرهم إلا القليل، وما يعرفه المؤرخون عن الحضارة الفينيقية جاء من الكتابات المصرية واليونانية والرومانية عنهم، ولكن ذلك لا يعني أن القليل غير مبهر، بل كانوا من الحضارات العريقة، وأول من عرفوا الحروف الأبجدية بمفهومها الحالي، وتركوا كنوزًا من المعرفة والإنتاج الفني، في هذا المقال معلومات شيقة ومبهرة عن الحضارة الفينيقية التي ازدهرت بين 1550 إلى 300 قبل الميلاد.
استكشف هذه المقالة
الفرق بين الفينيقيين والكنعانيين
كنعان هو مصطلح يُطلق على معظم بلاد الشام حاليًا، والكنعانيون هم الشعوب المنحدرة من نسل سام، وسكنوا تلك المناطق وكونوا حضارات عريقة، وينقسموا إلى عدة فروع، أهمهم الفينيقيون والأموريون والمؤابيون والعمونيون، كل شعب من هؤلاء الشعوب عاشوا في منطقة معينة في أرض كنعان وكونوا قبائل منفصلة عن الآخرين، إذًا الكنعانيون هو الاسم الذي يشمل كل قبائل المنطقة، بما في ذلك الشعب الفينيقي، وأصل كلمة كنعان من الفعل كنع، أي انخفض، لأنهم عاشوا في المناطق المنخفضة أو المناطق الساحلية.
الحضارة الفينيقية في بلاد الشام
الفينيقيون عاشوا بشكل أساسي على سواحل البحر المتوسط، بما يُعرف الآن بسواحل سوريا ولبنان، وأصل كلمة فينيقيا من كلمة فينيكس، والتي تعني أيضًا “شعوب المنطقة الساحلية أو المنخفضة”، أو الرجال الحُمر، بحسب اللغة اليونانية والمصرية القديمة، ويرى بعض المؤرخين أن أصل الاسم يعود إلى طائر الفينيق الأسطوري، والتي خرجت أسطورته من الحضارة الفينيقية .
الحضارة الفينيقية في الجزائر
لم ينحصر وجود الحضارة الفينيقية في بلاد الشام وحدها، بل توسع الفينيقيون وبنوا مدنًا ساحلية في شمال أفريقيا، سواء عبر وصولهم عن طريق البحر الأبيض المتوسط، أو عبر البر، فهناك عدد كبير من المؤرخين الذين يؤكدون على خروج قبائل من الشعب الفينيقي من بلاد الشام واتجهوا غربًا نحو مصر بعد الغزوات التي قامت عليهم هناك، فلم يجدوا لهم مكانًا مناسبًا في مصر، واستمروا بالترحال إلى حين وصولهم إلى تونس والجزائر، فبنوا هناك مدنًا على السواحل، مثل مدن قيرطا وإكوزيم وروسيكاد وإيول وسالداي وهيبوريجوس وكرطناي في الجزائر، وجميع هذه المدن اهتم بها الرومان عند دخولهم إلى الجزائر، وحولهم إلى مدن رومانية مهمة، وأغلب هذه المدن لا زالت موجودة بالفعل تحت مسميات حديثة عربية.
أول من عرفوا الأبجدية
قبل الحضارة الفينيقية، كانت اللغة تتكون من رموز، حيوانات أو نباتات أو إنسان، مثل اللغة الهيروغليفية المصرية، وكان من الصعب تعلم القراءة والكتابة بتلك الطريقة، لأن الرمز الواحد قد يحمل أكثر من معنى في كل دولة، كما كان من الصعب رسم الرموز بسرعة، ولكن جاء الفينيقيون واخترعوا فكرة الحروف الأبجدية، هي 22 رمز مبسط، كل حرف يكون صوت معين وبتجميع الحروف تتكون الكلمة، واستخدموا تلك اللغة في الكتابة على الأحجار والأوراق، وفي حوالي 800 قبل الميلاد اعتمد اليونانيون هذه الطريقة، وغيروا من شكل الرموز وأضافوا أربعة أحرف، لتصبح الأبجدية اليونانية 26 حرف، لكل حرف صوت معين وبتجميع الحروف تتكون الكلمات، ومن ثم انتقلت الفكرة إلى الرومانيين ثم اللاتينية وغيرها من اللغات، حتى وصلت اليوم الأبجدية بالشكل المعروفة به، والفضل يرجع إلى الفينيقيون.
فن ثقافي وأدبي ضائع
على الرغم من أن الحضارة الفينيقية هم أصل الأبجدية، ولكن ما بقي من منتجاتهم الثقافة والأدبية قليل جدًا، فعلى عكس المصريين الذين تركوا كتابتهم على الصخور والأحجار بجانب البردي، اعتمد الفينيقيون على الأوراق مثل البردي وغيره من الأنواع، والطبيعية الفينيقية الساحلية لم تكن جافة مثل طبيعة الصحراء المصرية، ولذلك ضاعت أغلب الأعمال الأدبية، وما بقي سوى القليل، وأغلب ما وصل عن الفنيقيين كان عبر مؤرخين يونانيين أو مصريين أو رومانيين، ولكن من المؤكد أنه كانت لهم ثقافة كبيرة ومعرفة واسعة بجميع الفنون والآداب والفلسفة والمعرفة العلمية.
مكانة المرأة في الحضارة الفينيقية
من مميزات الديانة في الحضارة الفينيقية ، أنهم عبدوا الآلهة الذكور وأهمهم “البعل”، والآلهة المؤنثة وأهمهم تانيت، وعبدوها بطريقة تختلف عن عبادة اليونانيين أو المصريين للآلهة المؤنثة، فهم نظروا لها على أنها حامية في الضيق وفي ذات الوقت إلهة للخصوبة والأمومة والحب، فنعكس ذلك على المجتمع الفينيقي، ولم يقتصر دور المرأة فيه على الإنجاب والتربية، بل كانت للمرأة مكانة هامة في كل شيء، وتميزت بالشجاعة والإقدام، وهذا الأمر تأثرت به جميع المجتمعات التي عاشت بالقرب من الفينيقيين.
السحر في حياة الفينيقيين
اشتهرت الحضارة الفينيقية بممارسة السحر وإلقاء التعاويذ، ومن أوضح التعاويذ السحرية التي وصلت إلى العصر الحالي، هي تعويذتين وجدت في سوريا، وكلهما للحماية، الأولى مكتوبة على قلادة، يستدعي فيها الساحر إلهيين لحماية من يرتدي القلادة من القوى الشريرة، والتعويذة الثانية لحماية مرتدي التعويذة أو حاملها من الحية أو الثعبان الشيطان، ومن عين الشريرة.
تأثرهم بالحضارة الفرعونية
بحكم قرب الحضارة الفرعونية من الحضارة الفينيقية والتبادل التجاري والثقافي الذي حدث بينهما، تأثرت الحضارة الفينيقية كثيرًا بالحضارة الفرعونية، خاصة فيما يتعلق بالرموز المُستخدمة في النقش على الحجارة، حيث صور الفينيقيون آلهتهم بأشكال الحيوانات كما فعل المصريون، حيث يكون الجسد جسد إنسان والرأس رأس كلب أو أسد، كما كانوا منبهرين بأبو الهول وصوره كثيرًا في التميمات وعلى مقابرهم، وفي الأغراض الدينية وأغراض السحر المختلفة، ولكن لم يعتقد الفينيقيون في عقيدة البعث والخلود كما المصريين، بل كانوا يعتقدون أن روح الإنسان تظل بالقرب من جسده بعد الموت هادئة وساكنة، ويجب على الأهل زيارة جسد الميت وتقديم الورود حتى تفرح روحه.
الأرجواني الملكي
من أكثر الأمور التي اشتهر بها الفينيقيون وتاجروا فيها هو اللون الأرجواني الملكي أو صبغة الإمبراطور، وهو اللون الذي ميز طبقة النبلاء والحكام في الحضارة الفينيقية ، كان باهظ الثمن، ويُصنع من إفرازات معينة من قواقع البحر، بعد تعرضها للضوء والهواء، وتمكنوا من الحفاظ على سر تصنيعه لمدة طويلة من الزمن، فكان يدر عليهم بالأموال الطائلة، لحين اكتشف الرومان طريقة صُنع هذا اللون وبدؤوا في تصنيعه بأنفسهم للإمبراطور.
أسياد تجارة العبيد
تميز الفينيقيون بكونهم أسياد في البحر ولديهم طرق متعددة في الملاحة وقدرة كبيرة على الإبحار، وكذلك يمتلكون قدرة كبيرة على الخطف، فكانوا يخطفون الأطفال والسيدات ويبيعوهم في أسواق العبيد في بلاد أخرى، ولكن سرعان ما تغيرت العادات وبدؤوا يشترون العبيد بدلًا من خطفهم، على سبيل المثال يشترون أسرى الحروب أو الأطفال اليتامى أو المديونين من بلد وبيعهم في بلد آخر بسعر أعلى، فعملوا كوسيط تجاري لبيع العبيد، وفي ذلك الوقت كانت أسواق العبيد تدر مبالغ طائلة على التجار.
وصول الحضارة الفينيقية إلى الأمريكيتين
هناك اعتقاد كبير بأن الفينيقيين وصلوا إلى أمريكا الشمالية والوسطى خلال السنوات التي أبحروا فيها بمهارة في البحار والمحيطات، فهناك دلائل على التأثر الواضح بالثقافة الفينيقية في الآثار المكتشفة في أمريكا الشمالية وحتى البرازيل والإكوادور، في حضارات مثل حضارة أولمك وحضارة بناة الروابي، وعندما تم اكتشاف “الهيكل العظمي في الدرع” الموجود في فول ريفر بمدينة ماساتشوستس، اعتقد علماء الآثار بأن الهيكل يرجع إلى بحار فينيقي، أبحرت سفينته ووصلت إلى أمريكا قبل آلاف السنين، كما وجدوا حجر في بحيرة في نيفادا، مكتوب عليها دعاء للمطر باللغة الفينيقية، كل تلك الاكتشافات تؤكد على الوجود الفينيقي في أمريكا قبل وقت بعيد من اكتشاف كولومبس لأمريكا.
من المعلومات الشيقة والغريبة عن الحضارة الفينيقية، أن العلماء في العصر الحديث لم يتمكنوا من معرفة اسمهم الحقيقي، أو ما أطلقوا على أنفسهم، فكلمة فينيقيين ظهرت في الكتابات اليونانية وهي تعني “الرجال الحُمر”، دلالة على اللون الأحمر الأرجواني الذين تميزوا به، ولكن هذا لا يعني أنهم أطلقوا على أنفسهم هذا اللقب بالتحديد، ومن العجيب أن مجموعة كبيرة من الأشخاص، عاشوا وتاجروا وبنوا مدنًا كاملة، ولا يعرف العالم اليوم ما هو اسمهم الحقيقي.
أضف تعليق