إذا أردت أن تفهم الحركة السريالية في الفن، سيكون هذا المقال الشامل بمثابة خلفية عامة لك لتتمكن من فهم هذه المدرسة الفنية المعقدة التي بدأت في عشرينيات القرن الماضي، بالرغم من أن النصوص الأدبية والأعمال الفنية للسرياليين هي غير واضحة، إلا أنه بعد قراءتك لهذا المقال وتعرفك على أهم العوامل المؤثرة في ظهور السريالية وعلى الفنانين الملهمين للحركة، بالإضافة إلى الخصائص العامة للسريالية والمواضيع التي تهتم بها مثل العقل الباطن والأحلام، ستتمكن من تكوين نظرة شاملة تمكنك من فهم الحركة السريالية بشكل أكثر وضوحًا، وسننهي المقال ببعض الكتب الهامة التي يجب عليك قراءتها.
الحركة السريالية : دليلك لفهمها
تعرف على العوامل المؤثرة في ظهور الحركة السريالية
قبل نهاية القرن التاسع عشر، ظهرت حركة فنية وأدبية تسمى بحركة نهاية القرن، ففي هذا الوقت اعتقد العلماء والمثقفون أن العالم بدأ يصل إلى منحنى خطير وغير عادي بسبب التقدم التكنولوجي وتطور العلوم وظهور فروع مستحدثة من العلوم، بالرغم من أن هذا التقدم التكنولوجي لا يقارن بالتقدم التكنولوجي في وقتنا الحالي، إلا أن المثقفون وجدوا أنفسهم أمام الكثير من المفاجآت التي لم يعتادوا عليها، واختلفت طرق الحياة وظهر الاتجاه البوهيمي الذي اتجه أصحابه إلى الابتعاد عن تقاليد الحياة الاجتماعية واتخذوا الرفض عنوانًا لحياتهم، كل هذه الأمور أثرت بشكل أو بآخر على ظهور الحركة السريالية ، إلا أن الحدث الكبير الذي انبثقت منه السريالية هو الحرب العالمية الأولى، فبعد الدمار الكبير الذي حل بالبلاد والملايين الذين ماتوا وشردوا، واجه المثقفون والفنانون الكثير من حالات اليأس والإحباط في فكرهم، إلى درجة أنهم وجدوا أنفسهم أمام طريق مسدود في الرقي بالإنسانية، وجدوا أن المدارس والاتجاهات الفنية لا تتناسب مع ما يحدث من حولهم، فلا يمكن لشاعر أن يكتب عن الربيع وعن تفتح الأزهار وعن الطيور الجميلة في الوقت الذي قد يقتل فيه شخص قريب له بسبب سياسات الدول الطامعة في الحصول على أكبر قدر من القوة أو بسبب وجود القوميات المتطرفة، وجد المثقفون أن الفن لابد أن يتجه إلى اتجاه جديد بعيد عن التقاليد والمدارس الفنية، خاصةً وأن عدد كبير من رواد الحركة السريالية كانوا صغار السن، وذهب منهم عدد كبير إلى الحرب العالمية الأولى وشاهدوا موت أصدقائهم أمام أعينهم.
الحركات الفنية التجريبية السابقة للسريالية
قبل ظهور الحركة السريالية ، كانت هناك بعض الحركات الفنية التي حاولت أن تواجه التغير الكبير الحادث في العالم والذي أثر بدوره على المدارس الفنية، فظهرت الكثير من الحركات التجريبية في الفن مثل الحركة الانطباعية التي يعدها المؤرخون أول حركة تجريبية في تاريخ الفن الحديث، بالرغم من ذلك فلم تتجه الانطباعية إلى تحطيم التقاليد الثابتة في الفن إلا بشكل طفيف، لكن بعدها ظهرت بعض الحركات المؤثرة مثل الدادائية التي ظهرت قبل الحركة السريالية بفترة قصيرة، كذلك فقد ظهرت بعض الحركات الفلسفية مثل الفلسفة العبثية والفلسفة العدمية والتي اندمجت في الفنون خاصةً في المسرح والسينما.
إلهام الحركة السريالية
تأثرت المدرسة السريالية بالكثير من النظريات الفلسفية والاتجاهات الفنية والنصوص الأدبية كذلك، بل أنه بإمكاننا القول أن الحركة السريالية هي خليط من الفنون والآداب التي سعت في القرن التاسع عشر إلى تحطيم التقاليد الثابتة، وأهم الأشخاص الذين كان لهم تأثير كبير على الحركة هو الشاعر الفرنسي لوتريامون الذي أصدر كتاب أناشيد مالدورور، والمميز في كتابات لوتريامون أنها لم تكن تتحدث في نفس المواضيع التقليدية والكلاسيكية في الأدب، بل أنها اتجهت إلى غبر أسوار النفس البشرية والعادات السيئة والطباع الشريرة للإنسان وتأثير الإنسان على من حوله بطريقة تشاؤمية إلى حد كبير، بالرغم من أنه كتب بعض الكتابات التي تدعو إلى التفاؤل كذلك فيما بعد، إلا أن تلك المواضيع كانت إلهامًا كبيرًا بالنسبة إلى الحركة السريالية ، بالإضافة إلى اعتماد لوتريامون على عدم استخدام الأوزان الشعرية المتعارف عليها، وفي هذه النقطة كذلك تأثر السرياليين ببعض الكتاب الفرنسيين مثل شارل بودلير وآرثر رامبو، حيث كانت تلك الكتابات محفزة لهم للتمرد على القافية الموجودة في الشعر والاتجاه إلى الشعر الحر الحداثي.
خصائص الحركة السريالية
في المقام الأول فإن الحركة السريالية تعتمد على استخدام التحليل النفسي في النظر إلى الأخلاق الإنسانية وإلى تحليل التاريخ والأمور الحادثة بشكل عام، لكن هناك بعض الخصائص الأساسية الأخرى مثل اعتمادها على التركيز في الأحلام بأكبر قدر ممكن واختلاط الأحلام بالواقع وتداعي الوعي، كذلك كان يسعى السرياليون إلى أن يبتعد كافة الناس عن التقاليد الكلاسيكية في الفنون وألا يعتمدوا على القافية الموجودة في الشعر وعلى الروايات التقليدية التي تتحدث عن البطولات والأساطير الإغريقية التي انتشرت منذ عصر النهضة، كذلك فهم يدعون إلى أن يحاول الإنسان تخليص عقله من كافة الشوائب والاستنتاجات التي قد تكون مبنية بسبب عوامل اجتماعية موروثة، بشكل عام فهم حاولوا الابتعاد عن التقاليد الفنية ورفضوا التقاليد المجتمعية وحاولوا الوصول إلى حالة إبداعية غير مسبوقة من الكتابة والتعبير عن المشاعر بصدق وإخلاص.
العقل الباطن والكتابة
بعد كتابات رائد علم النفس النمساوي سيجموند فرويد، اهتم المثقفون أكثر بالأحلام والأفكار الموجودة في العقل الباطن للإنسان ومدى علاقة العقل الواعي باللاوعي، ظن السرياليون أن بإمكانهم إخراج الكثير من الكتابات والإبداعات الفنية بالوصول إلى حالة قريبة من اللاوعي وأن يحاولوا جاهدين التعبير عن الأفكار التي قد تكون مدفونة في عقلهم، هذه هي النقطة الأساسية التي اعتمدت عليها الحركة السريالية عند بدايتها، فظهرت الكتابة الأوتوماتيكية (الكتابة التلقائية) التي يحاول فيها الكاتب أن يمسك بورقة وقلم وأن يكتب في حالة قريبة من اللاوعي ودون أي تفكير بكل ما يشعر به حتى يخرج الأحاسيس الصادقة الموجودة في عقله الباطن، باختصار فإن السرياليين كانوا يبحثون عن أكثر المشاعر غير الواضحة والموجودة في العقل الباطن للإنسان.
الاختلاف بين الدادائية والسريالية
بالرغم من أن بعض المؤرخين يحاولون إثبات أن الحركة السريالية قد انبثقت من الحركة الدادائية، إلا أن هذا ليس دقيقًا، فالدادائية نشأت على يد تريستان تزارا الذي رفض كافة التقاليد الفنية والثوابت وفي هذه النقطة يتفق مع السرياليين، إلا أن هناك نقطة هامة تفصل بين الحركتين، فالدادائية تعتمد على رفض الفنون كافة والتقاليد والثوابت، إلا أنها تقول أنه حتى الفنانين الدادائيين غير قادرين على إنتاج الفن، فبالرغم من أنهم يكتبون الكتابات الأدبية ويرسمون اللوحات ويقومون بتصوير الأفلام والصور الفوتوغرافية، إلا أنهم يعتبرون هذه محاولة في التعبير عن مشاعرهم تجاه العالم القاسي، لكنهم لا يعتبرون إنتاجهم فنيًا، أما السرياليون فهم يعتبرون أن ما يقومون به هي أعمال فنية بالرغم من أنها ترفض كافة التقاليد الفنية، وقد حدث هذا الخلاف في عام 1923 في معرض فني مشترك بين الحركتين، عندما أصر أندريه بريتون مؤسس الحركة السريالية على رفض أفكار تريستان تزارا المتطرفة في نظرتها إلى الفنون.
مواضيع الحركة السريالية
المواضيع التي اتجه إليها الكتاب السرياليين هي أكثر شيء يميزهم عن غيرهم، فتلك المواضيع لم يقترب منها أحد من قبل، حيث اهتم السرياليون بالحديث عن الحرب بطريقة غير عادية، وكيف أن قادة العالم يحاولون تدمير البشرية لصالح مصالحهم الشخصية، كما أنهم اقتربوا أكثر من المشاعر التي يشعر بها الإنسان الذي يشعر باليأس والإحباط تجاه الحياة المعاصرة، والأمر الأكثر تميزًا هو تعرضهم إلى التكنولوجيا بشكل صريح، حيث انتقد السرياليون تطور التكنولوجيا الذي أصبح يستخدم بشكل أساسي في عمليات القتل والتدمير، بالرغم من أنهم لم يعارضوا العلوم والتكنولوجيا نفسها، إلا أنهم رفضوا الاستخدام الشائع لها، كما أنهم تعرضوا إلى الحالات التي يشعر بها الإنسان ما بين النوم والاستيقاظ، وكيف أن لهذه الهلاوس تأثير كبير على حياة بعض الناس، حاول السرياليون بشكل عام الحديث عن الحالات النفسية الحادة التي يتعرض لها بعض الأشخاص وعن وضع الإنسان المعاصر وتطور الآلة من حوله.
تأثير السريالية على المدارس الفنية
بالرغم من أن الحركة السريالية لم تنشط سوى في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين بشكل أساسي، إلا أن هناك الكثيرين من الكتاب والفنانين السرياليين الذين ظلوا متمسكين بمبادئهم وأخرجوا الكثير من الأعمال الإبداعية مثل الفنان سلفادور دالي الذي أصبح من أهم الرسامين في القرن العشرين على الإطلاق، وأصبحت لتلك الأعمال تأثير كبير على بعض الحركات الفنية بشكل أو بآخر مثل الواقعية السحرية وغيرها من الحركات التي ظهرت في أوروبا والولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية، كما أن تأثير الحركة السريالية امتد إلى السينما حيث أصبحت هناك الكثير من الاتجاهات التجريبية والتي قادها بشكل أساسي المخرج لويس بونويل وأصدر العديد من الأفلام التي تعتبر من أهم الأفلام في تاريخ السينما.
الحركة السريالية العربية
اجتاحت الحركة السريالية العالم بأسره وامتدت إلى الثقافة العربية، حيث ظهر أكثر من فنان سريالي عربي مثل جورج حنين، لكنه لم يكتب كثيرًا بالعربية، بل كتب أغلب أشعاره بالفرنسية وتأثر كثيرًا بأندريه بريتون، إلى أن أصبح من أهم الكتاب السرياليين الذين ظهروا في الجيل الثاني من الحركة السريالية ، كذلك هناك الشاعرة المصرية جويس منصور التي اتجهت إلى الاهتمام بمشاعر المرأة بشكل أكبر لكن بطريقة غير تقليدية، كذلك فهي تعرضت إلى الاهتمام بالمواضيع النفسية الخاصة بالمرأة والتي لم تجرؤ الكثيرات من الشاعرات العرب على التحدث عنها، كانت جويس منصور صريحة للغاية واحتوت تعبيراتها على الكثير من التشبيهات الصعبة والمركبة بتعقيد، إلا أن أعمالها نالت الكثير من الاستحسان في فرنسا وفي المشهد الثقافي العربي على السواء.
مسرح القسوة
يعتبر مسرح القسوة من أهم إنجازات الحركة السريالية في القرن العشرين، حيث أسس هذه الحركة الكاتب المسرحي والشاعر أنطونين أرتو، اتجه مسرح القسوة إلى إخراج كافة الانفعالات البشرية بطريقة صريحة تمامًا دون اللجوء إلى المكونات الأساسية للمسرح، اعتبر أرتو أن المسرح هو الطريق الوحيد الذي يتمكن من خلاله الفنان من التواصل مع الجمهور وذلك من خلال عدم الحديث خلال المسرحية، بل أن يحاول الفنان أن يخرج العوامل المميزة في الأساطير سواء كانت من الأساطير القديمة أو حتى أسطورة جديدة، وأن يضع أكبر كم ممكن من الرموز في تكوين المشهد المسرحي، وأن يستخدم التقارب بين أصوات الممثلين والموسيقى التي عادةً ما تكون صاخبة لمحاولة إثارة مشاعر المشاهد، كذلك فإن أرتو يحاول في مسرح القسوة أن يتجه إلى إعطاء الضوء قدر أكبر من الأهمية في المشهد وأن يعتمد على حركة الممثلين الجسدية بشكل متنوع ليتمكن المشاهد من التفاعل بشكل أكبر مع الممثلين.
اقرأ الأعمال الأدبية الهامة
هناك بعض الأعمال الأساسية التي لابد أن تكون قد قرأتها لتتمكن من فهم الحركة السريالية بشكل كامل، بالرغم من أن هذه الأعمال كثيرة للغاية وتتجه اتجاهات مختلفة وذات مدارس متفرعة من المدرسة السريالية، إلا أننا سنستعرض لك الآن أهم تلك الكتب التي تضم أهم الأفكار والتوجهات في السريالية:
- نادجا : من تأليف أندريه بريتون مؤسس الحركة السريالية ، وهي ثاني رواية كتبها بريتون وتعتبر أهم رواية في الحركة الأدبية السريالية ويبدأ الكاتب روايته بالسؤال الفلسفي القديم “من أنا؟” وطوال الرواية يحاول الكاتب الإجابة عنه بطريقة إبداعية، وتعتبر الرواية شبه سيرة ذاتية لبريتون في علاقته مع مريضة نفسية أثناء عمله كطبيب نفسي وتحاول اسكتشاف الصفات الداخلية المعقدة للمرأة، بالرغم من أن الرواية لا تتبع خط سير واضح، إلا أنك ستستطيع متابعة الأحداث العامة التي تقع فيها، لكن يجب عليك التركيز في الجمل التي تحتوي على بعض التعقيدات والتي تتحدث فيها الشخصيات إلى نفسها، حيث اعتمد بريتون على فكرة المونولوج بشكل كبير في هذه الرواية.
- مذكرات عبقري : من تأليف الرسام الإسباني سلفادور دالي، تعد هذه المذكرات من أهم الوثائق التي تتعلق بالمدرسة السريالية، بالرغم من أنها مذكرات ذاتية عن سلفادور دالي، إلا أنها تضم الكثير من الأفكار التي تتحدث عن أهم خصائص المدرسة السريالية، ستعرف بعد قراءتك لهذا الكتاب مدى تأثير اللوحات فوق الواقعية على الحركة السريالية عامةً، فمن خلال رسومات سلفادور دالي غير العادية ظهرت بعض التطورات في السينما السريالية حيث ظهر أول فيلم سريالي قصير باسم كلب أندلسي وهو نتاج عمل مشترك بين لويس بونويل وسلفادور دالي وسبب هذا الفيلم الكثير من الضجة في صالات العرض في فرنسا بسبب تعرضه إلى الكثير من المواضيع غير التقليدية والتي تخص انتقادًا للطبقة البرجوازية التي تسيطر على الحياة الثقافية في أوروبا بشكل عام.
- عندما تمر خمس سنوات : من تأليف فيدريكو جارثيا لوركا، بالرغم من أن لوركا كان يتجه إلى الاتجاهات التقليدية في كتابة الشعر والمسرح، إلا أنه عندما ذهب إلى نيويورك وواجه الحياة الحديثة، تغيرت الكثير من أفكاره وبدأ بكتابة الأشعار والمسرحيات السريالية، وهذه المسرحية من أهم أعماله التي ستمكنك من استكشاف جزء هام من الحركة المسرحية السريالية، كما أنك إذا أردت أن تملك خلفية أكبر عن المسرح السريالي سيتحتم عليك قراءة عدد أكبر من مسرحيات لوركا، خاصةً مسرحية الجمهور.
- كاليجرامس : من تأليف ورسم جيوم أبولينير وهو أول شخص قام بإطلاق مصطلح السريالية، لذا فهو من أهم الأدباء الذين يجب أن تطلع على أعمالهم بشكل كبير، فهو من أكثر الأشخاص المؤثرين على بداية الحركة السريالية وعلى أندريه بريتون خاصةً، تضم هذه المجموعة الشعرية بعض القصائد المصورة بطريقة فنية غير عادية وتعتبر من أكثر المجموعات الشعرية الناجحة لأبولينير، لكن انتبه من اعتماد أبولينير على الترميز، فهو يحاول أن يستخدم أقل عدد ممكن من الكلمات لتوضيح وجهات نظره.
- البيان السريالي : من تأليف وعرض أندريه بريتون، وقراءتك لهذا البيان هو أمر أساسي لتتمكن من فهم الحركة السريالية ، هو ليس عملاً أدبيًا بالمرة، بل هو يحتوي على أهم الأفكار التي تنطلق منها السريالية، وبإصدار هذا البيان تمكن بريتون من جمع أنصار كثر للحركة السريالية في فرنسا وألمانيا وبقية دول أوروبا في وقت قياسي.
في ختام المقال، تذكر أن فهم الحركة السريالية يحتاج إلى المزيد من الاطلاع في الأعمال الفنية والرسومات في المقام الأول بالإضافة إلى الاهتمام بالأعمال الأدبية مثل الروايات والمسرحيات والشعر، قد تجد النصوص والمواضيع غامضة في البداية إلا أنك ستتمكن من الشعور بالتآلف معها بعد وقت قصير.
أضف تعليق