هناك عبادات أمرنا الله بفعلها كركن من أركان الإسلام، وهي الصلاة والصيام والزكاة..، وعند ترك صاحبها لها يُعاقب بالضرورة، فهذه الأمور نعرفها جميعًا، لكن أليست هناك عبادات قلبية تتعلق بعلاقة المسلم بربه؟ بلى، وتُعرف بـ الثقة في الله ، فالثقة في الله ليست تعبير عادي يمكن استخدامه بين آنٍ وآخر، بل هي فعل قلبي وذاتي يترجمه القلب على هيئة أفعال تدل على ثقة مؤكّدة في الله، فهذه العبادة القلبية أو هذه الصفة العظيمة بالطبع يفعلها الكثيرون، وبالكاد يكون هنا الاختلاف بين مؤمن بالله وآخر على قدر ثقته ويقينه بالله.
استكشف هذه المقالة
معنى الثقة بالله
المعنى أعمق من الفعل، والفعل يستحق تنفيذه على أكمل وجه. فإن الثقة في الله تعني اليقين والإيمان الراسخ بأنّ الله لم يكتب لك إلا الخير، وأنّه سبحانه من تتضرّع إليه فيستجيب لك، بل والأعمق من اليقين الاستسلام لقضائه وقدره، والصبر على البلاء فتحمد الله على ما أصابك، بل يمكنك الوصول إلى التضحية في سبيل حبك له الكامن من ثقتك فيه، فلا يضيرُك أعباء الدهر، ولا يُحزنُك اليوم، والغد آتٍ بالخير طالما ثقتك في الله موجودة. فهذه صفة يتحلّى بها المؤمن بالله، وتكون المشكلة الكبيرة إذا انتُزِعت هذه الثقة، لأن علاقة المخلوق بخالقه يجب أن تقوم على الثقة، فإذا انعدمت يحدث خلل كبير في هذه العلاقة المقدّسة، فما معنى عبادة المسلم وصلاته مع عدم وجود سبب جوهري بينه وبين خالقه؟. لذا يجب على كل مؤمن عقيدته راسخة بناء علاقة سليمة بينه وبين ربه عن طريق الثقة فيه، مع الاعتقاد والتسليم التام بأنه لن يخذله ولم يرِد له إلا كل خير، فحب الله نابع من الثقة فيه.
الثقة في الله في الأزمات
من علامات حب المخلوق لخالقه ثقته فيه، واللجوء إليه في الأزمات إذا ما وقع في الضيق، ولا يلجأ إلى أحد من خلقه، فتبدأ الثقة في الله عند يقين العبد أنّ الله سوف ينجيه من كل كرب، وأنه لا ملجأ من الله إلا إليه، ليكتمل التصديق والإيمان في قلبه، وهذا من سمات الأنبياء ومن قبلنا من الصالحين، فأي منا لا يحب أن يكون مثلهم!، هنالك سيدنا إبراهيم لما ترك زوجته هاجر وولده إسماعيل في واد غير ذي زرعٍ، تركهم لله على يقين أنّ الله سيتولاهم ويحفظهم في معيّته، وسيدنا ورسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم_ يضرب لنا المثل، فعندما كان في الغار هو وصاحبه أبو بكر _رضي الله عنه_ مهاجرَيٌن، يطاردهما الكفار من كل ناحية، لكنه -صلى الله عليه وسلم- كان يقول لا تحزن يا صاحبي فإنّ الله معنا، فأمدهما الله بالعون وأنزل عليهما السكينة والطمأنينة. ومنزلة التصديق القلبي بالله منزلة عظيمة بعد منزلة الأنبياء، فما أجمل أن نكون ممن يزرعون ثقتهم في الله في قلبهم!.
الابتلاء والفتن أعظم اختبار
ومن الأشياء المهمة التي تجعلنا نعلق كل ثقتنا على الله، ونلجأ إليه في الأزمات إذا اشتدّت، أولها الابتلاء، فلا عجب في ذلك، فمجرد الصبر على مصيبة أو خطبٍ كبيرٍ يصيبنا فهذا يدل على كامل الثقة في الله ، وهناك الكثير الذي أخبرنا به القرآن الكريم، وخصوصًا في سورة الأحزاب، يحكي كيف تعلقت قلوب رسول الله والمؤمنين في ذلك الوقت بالله، عندما اشتدّ بهم الأمر في غزوة الخندق، عندما اجتمعت مجموعة من القبائل عليهم لتبدأ غزوًا على المدينة، وتُشكّل أحزابًا ضد المسلمين، فتصدى لهم رسول الله ومن معه من المؤمنين الصادقين عن طريق حفر الخندق والذي منّ الله عليهم بحفره، ومن ثمّ حاصر الأحزاب المدينة وتعرّض المسلمون للأذى والجوع الشديد لمدة ثلاثة أسابيع، لكن انتهت بفضل الله وبثقتهم الكاملة في الله بانسحاب الأحزاب بعد إرسال الله عليهم رياح باردة، وألقى الله السلام والأمان في قلوب المؤمنين، والرعب والخوف في قلوب المشركين. ومثال للتضحية في سبيل ثقتك في الله هي تركك للفتن المحيطة بك، وأنه تعالى قادرًا على تثبيتك.
الثقة بالله في الدعاء
يكفي المؤمن وهو يتضرّع رافعًا يده إلى السماء أن يتأكد بأنّ الله سيستجيب لدعائه، عاجلًا أو آجلًا، فالدعاء مع الثقة في الله بالإضافة إلى الشعور بالراحة أثناء الطلب والإلحاح هو من تمام اليقين، والله تعالى يحب العبد كثير الدعاء، ولا ينبغي علينا الطلب والرجاء إلا من لله الخالق فقط، فالطلب من الله فيه عزة، والطلب من الناس فيه مذلّة وهوان، فعند الوقوع في الأزمات تثق في الله ثم تقوم بالدعاء، فتعيد الثقة به.. وهكذا. والدعاء لله رجاء، يمكن حدوثه بل وقريب جدًا تحقيقه، بعكس أن تتمنى شيئًا فيكون من قبيل الاستحالة، فأنت تطلب من الله الشيء وأنت على يقين أنه يسمع لك وسوف يستجيب، مع وجود المكاشفة بينك وبين الله، فلا تستحي واطلب منه ما تشاء، فالله تعالى سيفرّج كربَك وسيكشف الغُمّة. واعلم أنّ الله لا يأتي لك إلا بما هو خير، ويمكن أن تستخدم صلاة الاستخارة في الدعاء وتسأل الله بما فيه الخير والصواب لك، وسوف ترى نتيجة ذلك، لكن عليك أن تثق أن المنٌعَ عينُ العطاءِ.
كيف أتخذ قرارات أفضل في حياتي بالثقة في الله ؟
ابدأ أولًا بوضع خيارات أمامك لكن قليلة، ثم اصنع جدولًا صغيرًا يقارن بين هذه الخيارات، يتضمن فيه المحاسن والمثالب لكل منها، وعلى أساس ذلك يتم اختيار الأفضل من بينها، ومن ثمّ يجب أن يكون هذا الخيار أساسه الأول رضا الله، فتعقد نيتك على الوثوق بالله، وأنت على يقين أنّ الأفضل سييسره لك، لكن سوف تنتظر نتيجة ذلك الأمر، فإن كان خيرًا أتمّه الله عليك، وإن كان شرًا بثقتك في الله ويقينك به المسبق سوف يبعده عنك وسيقدّر لك ما هو الأفضل لك بعد ذلك، فاتخاذ القرار يحتاج إلى: الثقة في الله ، وعقد النيّة، ثم الرضا بما سيقسمه الله لك، وأنت مع ذلك مُخيّر قبل كل شيء، فليس معنى هذا تواكلك على الله، بل اجتهد واعمل بشكل جيد كي تستحق نتيجة جيدة. والقوة على اجتياز المصاعب واتخاذ قرارات صعبة في حياتنا نابعة من أننا دائمًا في معيّة الله وحفظه، وإذا توكلنا عليه يهدينا سُبُلَنا، فإذا ما كنا دائمي التوكل عليه، مع ثقتنا به التي لا تنعدم، حفظنا من كل سوء، وأعطانا القدرة على اتخاذ قرارات أفضل في حياتنا.
الثقة في الله في الرزق
قسّم الله تعالى نعمه التي لا تُعد ولا تُحصى على عباده في الأرض، ولم يظلم اللهُ أحدًا من عباده، فأعطى لكلٍ ما يستحقه، كما وزّع علينا الأرزاق، فمكتوب عنده في اللوح المحفوظ رزق كل عبدٍ من عباده، حتى رزق الطير في عشه، فهل نعلم كل ذلك ولا نثق بالله؟، كثيرُ منا يسأل نفسه لماذا لم يرزقني الله بمال كثير مثل فلان؟..، أو تراودها نفسها عن علة إنجاب فلانة بينما لم تُرزق بطفل!، مع عدم العلم بأنّ الله تعالى لا يريد بعبده إلا كل الخير، ولو يعرف العبد ما المكتوب في الغيب لأكثر من قول الحمد لله، فيجب أن يكون العبد على يقين وثقة بأنّ الله تعالى كريم ومِعطاء وأوزع نعمه عليه، فمن تمام الثقة في الله أن نشكر الله على النعمة، وعلى الرزق المحدود، وأن نسأل الله دائمًا راحة البال، ومن علامة الثقة بربك في الرزق القناعة بما قسمه لك، ودوام الشكر وأن تدعوه دائمًا أن يحفظ نعمته من الزوال.
فبذلك تعطينا الثقة في الله دروسًا نستفيد منها، فهيّا نبدأ بفعل هذه العبادة القلبية، لكي نكون عند الله من أصحاب التصديق والإيمان. وسترى بنفسك كيف تثق بالله فيصلح لك شأنك، وتكون في معيّته وحفظه، ولا يصيبك بثقتك ويقينك الأذى أو الخوف.
الكاتب: آلاء لؤي
أضف تعليق