البطالة هي وجود مجموعة من الأفراد الراغبين في العمل والباحثين عنه دون جدوى، بالرغم من استئهالهم للعمل وتوفرهم على الشروط التي يتطلبها سوق العمل، والبطالة مفهوم حديث ارتبط ارتباطا وثيقا بأمرين على الأقل: الأمر الأول هو ظهور مفهوم الدولة الحديثة، والأمر الثاني هو ازدهار الصناعة والتصنيع الذي أعقب الثورة الصناعية. وكلا الأمرين بهما من التداخل ما يتعذر علينا طي أطرافه في هذا السياق.
ما هي البطالة وكيف يمكن تجنبها؟
بين مفهوم الدولة الحديثة ومفهوم البطالة
تشتمل الدولة الحديثة على علاقات قائمة بين أطراف ثلاث، وهم الشعب أو المواطنين، والمنطقة الجغرافية التي يعيشون فوقها، ونظام حكم الذي يخضعون له. وتقوم الدولة الحديثة من الفرد الحديث مقام الأسرة القديمة أو القبيلة القديمة من الفرد القديم. كما يقوم الفرد الحديث من الدولة الحديثة مقام الفرد القديم من الأسرة القديمة أو القبيلة القديمة. وهذا يعني أن بين الدولة (مُمَثلَة في نظام الحكم) وأفرادها من التعاقدات المكتوبة في صورة قوانين ودساتير_ مجموعة من الحقوق والواجبات يلتزم كل طرف منهم بتأديتها لتتزن شؤون الدولة. وهذه التعاقدات لم تكن موجودة في نظام القبيلة أو الأسرة نظرا لتضمن العرف لها بحيث لم تحتج معها العلاقات قديما إلى تدوينها في مكاتيب. وهذه التعاقدات التي بين الدولة والمواطنين تتضمن توفير الدولة لهم ما كانت الأسرة أو القبيلة قديما توفره لهم من أمن وحماية وحفظ للمعيشة والكرامة، وهذه الأمور تتضمن توفير فرص عمل لهؤلاء الأفراد تدر عليهم دخولا تعفهم من العوز والعراء الاقتصادي. فإذا لم تستطع الدول توفير فرص العمل لهؤلاء الأفراد أو لبعض منهم، باتت ظاهرة البطالة أمرا واقعا لا مفر منه.
بين بزوغ الثورة الصناعية ومفهوم البطالة
لم يكن لمفهوم البطالة معنى في المجتمعات قبل الصناعية مثل ما له من معنى الآن، ذلك لأن الصناعة الحديثة بما تضمنته من مؤسسات ومنشآت وإدارات ونظم ولوائح للعمل، هي مكون رئيس من مكونات الدولة الحديثة. بل إننا لا نغالي في شيء إذا ما قلنا أن الرأسمالية الصناعية هي التي أنشأت الدولة في صورتها الحديثة. فمع ظهور نظام تقسيم العمل في المصانع وتفرد كل عامل بصناعة جزء دقيق من المنتج، ليمسي المصنع صورة مستحدثة من صور التجمعات البشرية، ظهر مع هذه الصورة فكرة سوق العمل واحتياج المصنع للعمال والموظفين بأقدار محددة، وأي زيادة عن هذه المقادير المطلوبة (وهي زيادة واقعة لا محالة)، فإن مصيرها المحتوم هو البطالة وانتظار الفرصة. فهذه الصورة الجديدة للتجمعات البشرية تمتاز من الصور القديمة المتمثلة في الأسرة والقبيلة في أن الأسرة والقبيلة بها من تآلف القلوب ومتانة الصلات اللذان يفرضهما العصب والنسب والدم_ ما يجعل إقصار العوز والاحتياج على أفراد دون آخرين أمر مستبعد. بينما التجمعات البشرية في صورتها الحديثة التي تمثلها المنشآت الصناعية الكبرى ليست تجمعات إلا لقضاء المنفعة المتبادلة بين العامل وصاحب العمل، وينقضي هذا الالتقاء بانقضاء هذه المنفعة المتبادلة، فلن يبقى صاحب العمل على العامل إذا ما قضى منه مآربه الربحية؛ لذا فليس يمنع من تسريح عمال والاستغناء عن آخرين وصد ثالثين طالبين للعمل. من كل ما تقدم تكون ظاهرة البطالة بأنواعها المختلفة أمرا محتوما لا مفر منه مهما تزيد أو تنقص.
أنواع البطالة
يمكننا _بعد أن استعرضنا مفهوم البطالة ونشأته_ أن نحدد ثلاث أنواع رئيسة لظاهرة البطالة، وهي:
- البطالة الدورية/ البنيوية، وهي تلك الناشئة عن الطبيعة الدورية للنظام الرأسمالي، أي الطبيعة المتأرجحة دوما ما بين التوسع والانتعاش الاقتصادي، وبين الأزمة والانكماش الاقتصادي. وهذه الأخيرة هي ما ينتج عنه إيقاف التوظيف، واتخاذ من تسريح العمالة سبيلا إلى التنفيس عن الأزمة.
- البطالة المقترنة بالهيكل الاقتصادي، وهي الناتجة من التغيرات الطارئة على التقدم التكنولوجي أو انتقال عمليات التصنيع إلى بلدان أخرى بحثا عن فرص أفضل لاستغلال رأس المال تكون العمالة فيها أرخص والتسهيلات الحكومية أكبر، وذلك من أجل ربح أعلى.
- البطالة المقنّعة، وهي البطالة المتمثلة في من يؤدي عملا فرعيا لا يسد حاجاته الأساسية فضلا عن الكمالية، كما تتمثل أيضا في مجموعة من الأفراد يقومون بعمل يستطيع النهوض به فرد أو فردين.
أنماط البطالة وسماتها
تظهر الدراسات الاجتماعية والاقتصادية التي تتناول ظاهرة البطالة بأن أشكال البطالة وأنماطها ليست ثابتة ونهائية، ولكنها متجددة ومتغيرة على الدوام. ويمكن تنميط التقسيمات المختلفة للبطالة _والتي تتناول كل منها ظاهرة البطالة بحسب زاوية الرؤية المنظور بها_ على النحو التالي:
النمط الأول: وفيه تنقسم ظاهرة البطالة بحسب نمط التشغيل إلى ثلاث أنماط رئيسة هي:
- البطالة السافرة أو البطالة الكاملة، أي حالة التعطل الظاهر التام، والتي يعاني منها بعض من قوة العمل المتاحة، بمعنى وجود مجموعة من الأفراد المؤهلين للعمل والباحثين عنه والراغبين فيه بشرط عدم ابتعاده عن مستوى الأجور السائد، ولكنهم لا يتوفرون على هذا العمل بهذه الشروط، مما يحيلهم إلى طابور الانتظار. ولهذا فهم عاطلين بالكلية بحيث لا يمتلكون أي عمل أو وظيفة لفترة تقصر أو تطول حسب ظروف اقتصاد البلاد، ولهذا فهو ظاهر وصريح.
- البطالة الجزئية/ نقص التشغيل، وهي الحالة التي يمارس فيها مجموعة من الناس أعمالا، غير أن هذه الأعمال ليست بدوام كامل، أي العمل فيها لوقت أقل من معدلات العمل المعتادة، مما يعني عدم استغلال طاقاتهم على أصح وجه، ومما يعني أيضا أنهم يعملون بعقود دون المرغوب فيها نظرا لإلحاح الحاجة، كما يعملون في أمكنة غير مهيئة للتشغيل، وكذلك يكون إنتاجهم أقل في العادة من الأعمال الأخرى، وتكون المحصلة النهائية دخولا مادية لا تفي بأغراضهم وما تفرضه عليهم حاجات الواقع.
- البطالة المقنعة/ المستترة، وهي الحالة التي يتراكم عدد كبير من العاملين فيها بشكل يزيد عن الحاجة الفعلية للعمل، وبالتالي يكون استغلال مهاراتهم أو إنتاجهم أو كسبهم متواضع. ويعد هذا النوع من البطالة أكثر الأنواع خبثا، خاصة في بلدان العالم الثالث؛ لتضمنها تدني الإنتاج في محصلة العمل.
النمط الثاني: وفيه تنقسم ظاهرة البطالة بحسب طبيعة النشاط الاقتصادي المسيطر إلى ثلاث أنماط رئيسة هي:
- البطالة الاحتكاكية/ الفنية، وهي ذلك النوع من البطالة المتمثلة في تعطل مجموعة من الأشخاص بالرغم من احتياج سوق العمل للعمالة، غير أن الأزمة تكمن في الفجوة بين متطلبات سوق العمل المتمثلة في بعض الشروط الواجب توافرها في العاملين المتقدمين من ناحية، وافتقاد هذه القوى العاملة المعطلة لتلك الشروط والمهارات التي يتطلبها سوق العمل من ناحية أخرى، ومن ثم فهم غير مؤهلين لإشباع حاجات سوق العمل. وعادة ما ينشأ هذا النوع من أنواع البطالة نتيجة لاحتلال الآلات الصناعية والأجهزة الإلكترونية محل القوى البشرية في الكثير من الصناعات، ومن ثم فهي تحتاج إلى الكثير من المهارات والتدريبات والدراسة لتيسير التعامل معها.
- البطالة الدورية، وهي تلك التي تنشأ بسبب الدورات التجارية المتعارف عليها في النشاط الاقتصادي المتكامل. إذ عندما يحدث ركود عابر في الطلب على السلع، فإن أصحاب المصانع يرغمون على تخفيض محصلة القوى العاملة، وذلك إما بتخفيض عدد العمال أو بتقليل ساعات عملهم؛ وذلك نتيجة لضرورة التخفيض في الإنتاج.
- البطالة الهيكلية/ البنائية، هي ذلك النوع من البطالة الذي يصيب بعضا من قوة العمل؛ وذلك نتيجة لتغيرات هيكلية تطرأ على الاقتصاد القومي، فتؤدي إلى ظهور حالة من انعدام التوافق بين خبرات ومؤهلات العمال المتعطلين الباحثين عن العمل من ناحية، وبين فرص التوظيف المتاحة من ناحية أخرى. كما تحدث البطالة الهيكلية نتيجة لتغير يطرأ في هيكل الطلب على المنتجات والسلع، أو إلى تغير يحدث في التقنيات المستخدمة، أو إلى تغيرات تحدث في سوق العمل ذاته.
النمط الثالث، وفيه تنقسم ظاهرة البطالة بحسب طبيعتها الخاصة إلى ثلاث أقسام رئيسة هي:
- البطالة الموسمية، وهي تلك البطالة المرتبطة بمواسم التوظيف في قطاع معين من الأعمال، فتؤثر بالتالي على العاملين في مجال من هذه المجالات موسمية الطابع، كمجال الزراعة مثلا، فقد أمست الزراعة مهنة لبعض الوقت، لاسيما في الأقاليم التي تتسم بصغر حجم الحيازة الزراعية بفعل عمليات التفتيت والتقسيم، إما بسبب تقسيم المواريث أو بسبب سياسات الدولة الزراعية. كما يشمل هذا النوع من البطالة أيضا بعض المعلمين العاملين بعدد الحصص في بعض المدارس، والتي بدورها تتوقف عن العمل في فترات محددة من العام.
- البطالة الاختيارية، وهي تلك البطالة التي بموجبها يتعطل الفرد عن العمل بخالص إرادته، وذلك بتقديم استقالته عن العمل بسبب رغوبه عنه أو رغبة منه في وقت الفراغ أو ليتفرغ للبحث عن عمل أفضل وظروف أحسن، أو لأي سبب كان.
- البطالة القسرية/ الإجبارية، وهي تلك البطالة التي يتعطل فيها العامل قسريا، أي من دون إرادة منه أو اختيار. وتحدث بتسريح العمال وإنهاء تعاقداتهم رغم رغبتهم في البقاء والاستمرار في العمل مع قدرتهم على هذا العمل وعدم اعتراضهم على مستويات الأجور السائدة، ومن أمثلة ذلك ظاهرة المعاش المبكر الإجباري. كما قد تحدث البطالة القسرية عن طريق المعاش المبكر عندما تغلق فرص التوظيف أمام الداخلين الجدد لسوق العمل بالرغم من بحثهم الحثيث عنه واستئهالهم له وقبولهم لمستويات الأجور السائدة؛ مما يضطر الدولة بتسريح الأجيال القديمة لإتاحة الفرصة للأجيال الجديدة. والبطالة القسرية تسود بشكل جلي في مراحل الكساد الدوري التي تصيب الدول الصناعية، أو في حالات الخصخصة للمنشآت العامة والشركات القطاع العام في الاقتصاد القومي.
كيف يمكن مواجهة ظاهرة البطالة؟
ليست ظاهرة البطالة بالظاهرة البسيطة التي يمكن اجتثاثها من الجذور بضربة واحدة، لاسيما إذا تحدثنا عنها في السياق العربي. ذلك أن البطالة في دول العالم الأول لا تعني ما تعنيه في العالم العربي من تعذر سبل العيش المستقيمة والكريمة، ففي دول العالم الأول ليست البطالة بالأمر المستقر المستطير الذي يسيطر على المجتمعات لديهم عقودا وأجيالا، وإنما هي ظروف طارئة يعقبها دخول واندماج في سوق العمل، حتى أن القوة العاطلة يتم تعويضها بما يكفيها ويعفيها إلحاح الحاجة.
أما في إطار العالم العربي فظاهرة البطالة ليست متصلة بالاقتصاد فحسب، بل هي إلى ذلك متصلة بالحالة الثقافية التي تسيطر على عقول الناس والحالة التعليمية والصحية والسياسية والاجتماعية، باختصار، فإن ظاهرة البطالة _شأنها شأن جميع الظواهر المصاحبة لحالة الردة الحضارية والثقافية_ هي ظاهرة شبكية الطابع؛ فلا يمكن حلها إلا بمعالجة الجذور… كيف؟
على سبيل المثال لا بد من تغيير نمط التعليم ليمسي الحظ الأعظم منه من نصيب التعليم الصناعي، مع أن يكون تعليما بحق وليس مجرد شهادة يُتحصل عليها، وتكون الكليات العليا لا تحتل أكثر من 20% من محصلة الخريجين. وهذا الأمر يتطلب بالضرورة اللعب على الثقافة لتغيير نظرتها لهذه المعاهد والمدارس الصناعية. كذلك في مجال الصناعة ينبغي التوجه نحو الصناعات المتطورة، ودعم الخبرات المحلية وتزويدها بما تحتاجه من خبرات ودورات تدريبية ومنح دراسية لتكون هي الراعية للعملية الإنتاجية بدلا عن انتداب الخبراء الأجانب لتُصب خيرات البلاد في جيوبهم هم. أضف إلى ما تقدم مئات الإجراءات الواجب اتخاذها على المستوى الاقتصادي والسياسي والتعليمي بما يحتاج لتحديده عشرات العلماء في التخصصات المختلفة من نفس إلى اجتماع واقتصاد وأنثروبولوجي وهندسة… إلخ
أضف تعليق