حالات الاغتراب النفسي شائعة جدًا بين البشر. وحتى نُعرف مصطلح الاغتراب النفسي: فهو الشعور بالوحدة المفرطة وسط الجموع أو الأقارب أو الأصدقاء. هذه الحالة سخيفة جدًا لكنها حالة شرسة من الوحدة تتملك من يعاني من الاغتراب النفسي بطريقة بشعة، تجعله غير قابل للتأقلم مع أحد أو مكان أو عمل أو علاقة. ببساطة لأنه دائمًا يشعر بالوحدة حتى وسط أقرب الناس له. وهذا الأمر عندما يزداد عن الحد يصير خطير جدًا، وممكن جدًا أن يدفع صاحبه للانتحار. وهذا ليس مبالغة بل هي حقيقة لأن عدد يتعدى ال40% من حالات الانتحار في العالم تأتي بسبب الشعور بعدم الجدوى، والشعور بالاغتراب النفسي الذي يجعل الناس لا يشعرون بالآخرين حتى ولو الآخرين حاولوا أن يقتربوا منهم. ولكن هذه الحالة تكون داخلية لديهم، ومن الممكن أن نعتبرها نوع من البارنويا، أو الوسواس القهري بالشعور بالاضطهاد. لأن أحيانًا المجتمع من حولنا يكون هو السبب في حدوث هذه الحالة بالنسبة لبعض الأشخاص.
ما هي حالات الاغتراب النفسي ؟
اختلاف الاهتمامات
هذا السبب هو رئيسي جدًا في الشعور بالاغتراب النفسي، حيث أن وجود اهتمامات متبادلة بين البشر هو الذي ينشئ علاقة اسمها الصداقة. ومن ثم هذه العلاقات تتعدد وتجعل الإنسان الطبيعي يشعر أنه ليس وحيد. أما عندما لا يكون هناك اهتمامات متبادلة بين أحد الأشخاص ومجتمعه، وغالبًا يكون هو في مكان ومن حوله في مكان أخر، مع العلم أنهم في نفس المكان الجغرافي. والسبب أن كل منهم يفكر ويتكلم في شيء لا يناسب الشخص الذي يعاني من الاغتراب النفسي. ومشكلة هذا الشخص هو أنه من الممكن أن يكون قد حاول مرارًا وتكرارًا عرض طريقته وأسلوبه وتفكيره بين الناس. ولكنهم سخروا منه أو تعاملوا معه على أنه نكرة، أو أنه تافه، أو أن ما يفكر فيه هو مجرد كلمات تافهة لا تستحق أن يتكلموا فيها. كل ردود الأفعال هذه عندما تتكرر مع نفس الشخص يبدأ في الوصول إلى هذه المرحلة من أنه مختلف أو متخلف عن الآخرين. ثم يتحول هذا الشعور إلى شعور بالغربة وسط هؤلاء الناس من حوله. فهو يفكر في شيء وهم يتكلمون في أشياء لا تستهويه وينشأ حاجز بينهم يدعى الاغتراب.
اختلاف الثقافات
هذه المشكلة تواجه المهاجرين كثيرًا، ببساطة لأن المهاجر غالبًا يكون قد تربى في بيئة مختلفة عن المكان الذي سيذهب ليكمل حياته فيه. ومن هنا اختلاف العادات والتقاليد يجعل التعامل مع الناس هو أمر ثقيل نوعًا ما على المهاجر، وخصوصًا في المرحلة الأولى من الهجرة، حيث لم يعتاد على نظام الثقافة الجديدة الذي وجد نفسه فيها. ومن هنا قد يحدث بعض الشعور بالغربة من حيث اللغة، ومن حيث الاهتمامات، ومن حيث طريقة العيش والحياة نفسها. فينتج من ذلك انزواء المهاجر لشعوره بالاغتراب النفسي عن الشعب الأخر الذي يعيش معه. ولأن المهاجرين نوعًا ما يجدون صعوبة في التأقلم في بداية حياتهم بسبب الاغتراب النفسي بينهم وبين المجتمع، يظلوا يبحثون عمن يشابهونهم البلدة والأصل. حيث من الممكن أن يتعاملوا معهم بطريقتهم المعتادة ويتخلصون من الشعور بالغربة الذي يعانونه هذا.
مجموعات الأصدقاء
وهذا سبب شهير بين المراهقين يجعلهم يشعرون بالاغتراب النفسي بينهم وبين الأولاد الآخرين. الأمر يبدأ في أن هناك مجموعة من الأصدقاء، ولكن هناك ولد أو فتاة ليس لديه مجموعة أصدقاء، فيشعر بالوحدة كبيرة ويشعر أنه سيء ولا يوجد أحد يريد مصادقته. وأحيانًا يتحول الأمر لاكتئاب بسبب أن هذا المراهق ليس لديه صديق. وقد لا يعرف قيمة هذا الموضوع بعض الآباء ويقسون على ابنهم أو ابنتهم، لكن هذا الأمر حقيقي أن يعشر المراهق كونه وحيد وغير محاط بالأصدقاء. أما المشكلة الأكبر هي أن كل مجموعة أصدقاء صعب جدًا أن تدخل في وسطهم فرد جديد، لأن قليل جدًا أن يتفق كل أفراد المجموعة في اقتحام شخص لمجموعتهم الصغير الممتعة، ويعرف أسرارهم الذين يحكونها بعضهم لبعض بكل طلاقة ودون خجل. ولذلك الموضوع يكون صعب جدًا للمراهقين ولا سيما أن احتياج المراهقين لإخراج طاقتهم التي تزيد في مرحلة البلوغ بشكل ملفت.
الأصدقاء الأكثر من اللازم
هناك مشكلة أخرى تصيب بعض الناس، وهي أن هناك نوعية من الناس لديها أصدقاء في كل مكان ومعارف كثيرة جدًا. ولكن ليس لديها صديق مقرب. وفكرة أن تكون كل علاقاتك من النوع السطحي فهذا مع الوقت يؤدي إلى الشعور بالاغتراب بصورة كبيرة أكيدة. والسبب هي أن الأشياء العميقة داخل هذا الشخص تظل مدفونة ومكبوتة داخله، لدرجة أنه يشعر بالاغتراب النفسي وسط كل هؤلاء المعارف والأصدقاء. بل وإن غالبًا من لديه الكثير من المعارف والصداقات بالفعل هو يعاني من هذه المشكلة، لأن الموضوع تلقائي جدًا. فالمعارف الكثيرة لا تجعلك تأخذ وقتك مع واحد فقط أو مجموعة واحدة فقط، بل تكون شخص متناثر الصداقات لدرجة أن الصداقة تفقد قيمتها بسبب كثرتها.
فارق السن
هذه الحالة تحدث كثيرًا في حالات الزواج بين رجل وامرأة مع فارق العمر بينهم كبير. أو حتى بين الإخوة، ففي الأخير وجود شخص في فئة سنية معينة وسط أشخاص مختلفين عنه خارج إطار فئته العمرية، سيتحول فارق العمر هذا إلى اغتراب نفسي. حيث أن لو كان الزوج مثلًا في الخمسينات والزوجة في العشرينيات، فعندما تتكلم الزوجة عن التكنولوجيا وعما يحدث من أحداث وأشياء تناسب عمرها الشبابي، تجد أن زوجها ذو الخمسين عام بعيد جدًا عنها في طريقة فكرها. بل وإن أصدقاء زوجها يكونون غالبًا في نفس فئته العمرية مما يؤدي إلى شعور الزوجة بنوع من الغربة القاسية عن كل ما يربطها بحياتها وعمرها. وتشعر أنها تقدمت في العمر، وبالعكس يشعر الرجل ذو الخمسين عام أن زوجته طفلة ولا تستحق الاهتمام بتفاهاتها وطريقة تفكيرها الطفولية. في حين أن الشاب العشريني يفكر تقريبًا بنفس طريقة الفتاة، وهذه هي المشكلة في الزواج مع فارق العمر. أيضًا عندما يجلس شخص مثلًا عمره صغير في وسط مجلس معظمه كبار السن، فما سيشعر به خلال الجلسة أن هؤلاء الناس يقدرون بعضهم ومواضيعهم غالبًا تتمحور عن ذكريات حدثت قبل ما يولد. ولذلك يشعر الشخص الصغير بالغربة دائمًا في وسط حكايات كبار السن.
عدم الاهتمام بوجودك
أحيانًا يكون هناك مشكلة في المكان الذي تجلس فيه أو الناس الذين من حولك، وهي أنهم لا يهتمون بوجودك من الأساس. وكأنك غير مهم بالمرة، مثلًا عندما تذهب في رحلة مع مجموعة معينة من الناس وتجد فجأة أفراد الرحلة تحولوا إلى مجموعات ولا أحد منهم يهتم بك على الإطلاق وكأنك غير موجود، لا أحد يقترب منك، لا أحد يتكلم معك، ولا يأخذك على محمل الجد، كلهم مشغولين في اللعب والسمر مع أنفسهم ويتركونك وشأنك. هذه الحالة إذا تكررت مع الشخص أكثر من مرة في أكثر من مكان تجعل الشخص يشعر بالاغتراب النفسي بين الجموع. يشعر أنه غير مهم ولا أحد يبالي به ولا أحد يحبه مثل الآخرين، ولا أحد يريده أن يكون وسطهم. ولذلك أعزاءي القراء لن تخسر شيئًا، عندما تجد شخص وحيد بين مجموعات فلا ضرر من أن تتكلم معه لفترة وجيزة، لو وجدته بشوش فلا مانع أن تشعره بعدم الوحدة. أما لو وجدته عابس فاتركه ربما هو يحب هذا.
التفرقة العنصرية
في كل مكان في العالم يوجد هؤلاء الناس المتطرفين المتعصبين جدًا، الذين يشعرون أنهم الوحيدين الجيدين في هذا العالم. وبالتالي هم غالبًا يتعاملون مع المغايرين عنهم بتفرقة عنصرية. فمثلًا في الولايات المتحدة الأمريكية والتي تزعم أنها منبر الحريات في كل العالم، هناك طافية كبيرة جدًا تفرق بين السود والبيض، لدرجة أن في ستينيات القرن الماضي قمت ثورات لأجل المساواة بين السود والبيض. وما قد لا يعلمه البعض أن في هذا الوقت كان السود يعاملون بطريقة رديئة جدًا، وكانوا درجة متدنية من البيض ولا يصح ارتباط البيض مع السود إلا من منطق متكبر، ويكون الأبيض فيه هو السائد على الأسود ومتحكم فيه. والحقيقة أن هذه التفرقة العنصرية موجودة حتى الآن، ولكنها بطريقة متوارية بعض الشيء. ومن هنا نتكلم عن الاغتراب النفسي في حالات التفرقة العنصرية في اللون والدين والشكل والرجل والمرأة، فالكل سواسية.
أحيانًا كثيرة يتعامل الناس مع المرأة العاملة في مكان ما كأنها شيء غريب وطارئ. وهناك صورة مشهورة جدًا عن أول طالبة سوداء تلتحق بجامعة أمريكية، وهذه الصورة تجد فيها كمية نظرات لهذه الفتاة كفيلة جدًا أن تفسر لك ما هي فكرة الاغتراب النفسي، والشعور بأنك غريب وسط الكثير من الناس الذين ينتقدونك ويقللون من شأنك. ويصل الأمر أحيانًا إلى أنهم يسبونك. أيضًا هناك حالة مشهورة جدًا ومن الممكن أن ترجع إلى يوتيوب، وهي خروج اللاعب صموئيل ايتو من ملعب المباراة مع فريقه برشلونة، لأن الجمهور كان يصفه بالقرد الأسود وصاروا يمثلون صوت القرد في المدرجات. لدرجة أن اللاعب شعر بالإهانة وبكى وأراد أن يخرج من الملعب، هذا أيضًا شعور بالاغتراب النفسي. فوسط كل هؤلاء الجماهير شعر هذا اللاعب أنهم يقصدونه هو فقط، وهو الوحيد الذي شعر بعدم الانتماء لهذا المكان، لدرجة أنه ضحى بكل شيء من أجل كرامته.
الشعور بالظلم والاضطهاد
هذا الشعور أيضًا يتحول مع الوقت إلى حالة من حالات الاغتراب النفسي التي يتعرض إليها الناس، وخصوصًا من حيث الانتماء لأي شيء. وكي نوضح لك الأمر بشكل بسيط، فكرة اضطهاد الأب لابن من أبنائه، ولكن ليس مجرد مرة واحدة ولكن طوال فترات حياته يضطهد الابن بصورة واضحة دون عن بقية أخوته. مع الوقت هذا الاضطهاد يتحول لدى نفسية الابن بشعور من الاغتراب النفسي الشديد، وأن هذا الشخص ليس أبيه وأن هؤلاء الأخوة ليسوا أخوته، لمجرد أنه يشعر طوال الوقت أنه بعيد عنهم بسبب الاضطهاد والظلم الذي يتعرض له. هكذا أيضًا فكرة الانتماء إلى الوطن فعندما يجد مواطن ما ظلم وعدم احترام لإنسانيته، فإنه مع الوقت يفقد الانتماء لوطنه، ويشعر بالاغتراب النفسي في هذا الوطن، لأنه يرى أن هذا الوطن يؤذيه. فيبدأ أن يصنع مفهوم جديد للوطن وهو أن وطنه هو الذي يقدر إنسانيته. ولذلك يتمرد مثل هذا الشخص على بلده وقد يحدث أحيانًا ويخون بلده بسبب ظلم هذه البلد له في يوم من الأيام.
فقدان أعز شخص
هناك أشخاص في الحياة، علاقتهم بنا ليست عادية. وكل إنسان في هذه الحياة لديه شخص قريب منه بطريقة غير عادية واستثنائية. ولكن كما نعلم جميعًا أن الموت هو الحقيقية الوحيدة في هذا العالم. ولذلك يحدث ويخطف الموت أعز من نملك دون إرادتنا وذلك الوقت بالتحديد هو أقصى مرحلة من مراحل الاغتراب النفسي. حيث أن الشخص دون أعز شخص عليه يشعر بالوحدة المطلقة وحالة من عدم التعويض ليست بسيطة. خسارة الإنسان هي فاجعة بكل مقاييس، ما بالك بأعز إنسان لديك مثل شريك حياتك أو أبيك أو أمك أو أخوك أو أعز أصدقائك؟ في حالات الفقد، الإنسان يرتبك ولا يعلم ماذا يفعل لأنه يشعر بالعجز المطلق. عجز عن عدم رؤية أعز شخص عليه، وفي المقابل عجز أن يعالج الموضوع لأن الموت ليس له علاج.
اختلاف المستوى التعليمي
الأمر طبيعي جدًا ولا يحتاج إلى فطنة كبيرة، فلو وضعت شخص جاهل تمامًا بالقراءة والكتابة وسط مجموعة علماء، ما النتيجة؟ بالتأكيد أن هذا الشخص الجاهل سيشعر بالاغتراب فورًا. ليس لأن العلماء تعالوا عليه أو ضروه بكلمة، ولكن الفكرة واحدة وهي عدم التواصل. فالجاهل غالبًا عاجز عن فهم الكثير من الأشياء حوله، والعجز شعور سيء، ولا سيما عجز الفهم. فالأمر ليس بسيط كما يعتقد البعض، بل إنك تشعر بأنك أقل ممن هم حولك. هذا شعور قاتل بالنقص ويجعل الشخص يخجل من ذاته، ويرغب في الابتعاد عن هؤلاء الناس. مع ملاحظة أنهم لم يؤذونه، ولكنه فقط يشعر أنه لا يعرف عن ماذا يتكلمون فيشعر بالخجل، ويتحول الخجل إلى شعور بالاغتراب النفسي. فيرغب في المغادرة أو أن يكون وحيد حتى يلملم شتات نفسه. أيضًا نفس الفكرة لو وضعت عالم في وسط جهلاء، فهو غالبًا سيشعر بحالة كبيرة من عدم التواصل لأن عقليته تذهب في مكان وعقولهم ترقد في مكان أخر بعيد جدًا.
الفشل واليأس
هناك بعض الأوقات في حياتنا لا نكون موفقين بالمرة والظروف من حولنا سيئة جدًا ورديئة. ونحن أنفسنا نفشل ونيأس ونصل إلى مرحلة من اللامبالاة وعدم الرغبة في التعامل مع الناس. حالة من إنكار الواقع هي في الحقيقة نوع من أنواع الاغتراب النفسي، وعدم قبول الواقع السلبي الذي نعيش فيه. لدرجة أن شعورنا باليأس يجعلنا لا نشعر أننا متأقلمين مع الناس أو المجتمع، بل بعيدين جدًا عنهم بطريقة سيئة وسلبية. ومشكلة هذه الحالة أنها مزيج من شعورين خطرين، وهما الفشل والاغتراب النفسي. وحينها يكون الإنسان بوضوح وصل لأقصى مراحل الفشل التي يواجها في حياته. لأنه لا يعرف كيف يتعامل مع الواقع من حوله وفي نفس الوقت لا يعرف كيفية النجاح، وبين كل هذا رغبته في أن يتأقلم ويتعايش مع المجتمع تكون غير موجودة تقريبًا.
حالات الاكتئاب
في حالات الاكتئاب عمومًا أي كان سببها، يشعر المريض بالاغتراب النفسي تلقائيًا ويعد هذا الشعور من أشهر أعراض الإصابة بالاكتئاب. والذي يوضح الكثير للطبيب النفسي بمجرد أن يقول المريض أنا لا أعرف أن أتأقلم مع الناس من حولي. فهذا يقرب الطبيب من أن هذا الشخص غالبًا يعاني من اكتئاب من نوع ما. وهذا الاكتئاب غالبًا يدخلك في حالة من عدم الرغبة في التعامل مع أي شيء، وليس الناس فقط. فيجد الشخص نفسه وحيد وانطوائي ولا يريد أن يسمع أحد، بل الحقيقة هي أنه لا يتحمل أن يسمع أي كلام من أي شخص. يكون حساس جدًا تجاه الناس والمجتمع من حوله لذلك يفضل أن يبتعد عنهم.
بالنهاية، حالة الاغتراب النفسي لا يمكن السكوت عنها. ومن أفضل الحلول أن تطلب المساعدة، أو أن تبتعد عن مصدر المشكلة لترتاح منه. وليس هناك عيب في أن يشعر الإنسان بالوحدة في مكان معين، لأن العالم كله لن يناسبك، وأنت تمتلك شخصية تتناسب بالتأكيد مع مكان وظروف معينة مختلفة، عليك فقط أن تجدها.
أضف تعليق