ما أجمل الألوان وما أبسط الألوان! لماذا قد يكتب أحدٌ مقالًا عن الألوان إلا لو كان يوجهه لأطفالٍ في مقتبل العمر؟ لأن هذا المقال هو دوامةٌ فلسفيةٌ تساؤليةٌ بحتة ستسبب لك الدوار وستجعلك تشك في كل أفكارك ومعتقداتك، سيجعلك تشك في عينيك نفسيهما، دعنا نبدأ بدايةً سهلة، لنتحدث عن الألوان ونخبر بعضنا البعض بعددها وأسمائها وأنواعها ودلالاتها، لنعد إلى أيام الطفولة عندما كنا نمسك بالأقلام الملونة فنحاكي ما نراه أمامنا ونلون ونرسم في دفاترنا، العشب أخضر، السماء زرقاء، الخشب بني، القطة بيضاء، لحظة! من حكم على القطة بالبياض؟! القطة سوداء يا رجل لماذا لم يعلمونا ذلك في صغرنا؟! لا بأس لنتجاوز ذلك ونكمل الليل أسود.. أم أنه أزرق؟ أزرقٌ غامق؟ أسود؟ هل أنت متأكد؟ لنتجاوز ذلك أيضًا، البحر أزرق الـ.. لحظة! البحر أزرق؟ الماء لا لون له! رمال البحر بنية إذًا فالبحر بني! البحر أزرق! تمزح!
الألوان : ما الذي تراه أعيننا بالضبط ؟
قصة
لنبدأ قصة الألوان بقصةٍ أخرى طريفة، مأساوية قليلًا لكنها طريفة، كانت تلك القصة تُروى على لسان صاحبها وهو رجلٌ ولد ضريرًا فلم يرَ الأشياء وألوانها قط! نحن تعلمنا في صغرنا أسماء الألوان ودلالاتها فالسماء زرقاء والعشب أخضر لكن لمن لم يرَ الألوان قط فأسماؤها مجرد مصطلحاتٍ لغويةٍ لا معنى لها بالنسبة إليه، فإذا أخبرته عن اللون الأحمر فالاسم لا يعني له شيئًا عندها تخبره الأحمر مثل النار فلا بأس، ثم بعد ذلك تخبره أن الفراولة حمراء اللون فكيف ذلك! هو لم يرَ الأحمر ولا يعرف درجاته وليست لديه أدنى فكرة عن كيف سيملك كلٌ من النار والفراولة نفس اللون! السماء زرقاء والمحيط أزرق لكن الماء شفاف إن أخبرتموه بذلك غالبًا سيترككم ويرحل لأن ما تقولونه هو الجنون بعينه، الأبيض هو كل الألوان والأسود هو انعدام اللون تمامًا، عزيزي هو لم يرَ الألوان قط ليعرف كيف سيكون وجودها وانعدامها! الألوان أمرٌ معقدٌ أكثر مما تظن وكونك عندما وُلدت تمت الإشارة لك للعشب وقيل هذا أخضر حفظت ذلك اللون وسجلته في ذاكرتك البصرية ثم بدأت بعد ذلك تنظر لكل شيءٍ له نفس درجة لون العشب أو درجة مشابهة لها فتقول عنه أنه أخضر بسيطة أليس كذلك؟ لا ليست كذلك في الواقع.
تأمل هذا السؤال
لنرَ الآن، هل تملك دليلًا ماديًا علميًا على أن عينك ترى نفس درجات الألوان التي تراها عين غيرك؟ لا تملك صدقني فلا تبحث عن الإجابة، إذًا دعنا نعد للوراء قليلًا لليوم الذي أخبرتك فيه والدتك أن العشب أخضر، أنت رأيت لونًا لا تعرف اسمه فسألت ما لون العشب فقيل أخضر أمرٌ متعارفٌ عليه، لكن السؤال هل كلنا نرى نفس الأخضر؟ لم تفهم؟ دعني أوضح أكثر، عينك ترى الأخضر باللون الأخضر! لكن والدتك ترى اللون الأخضر باللون الذي تسميه أنت بني، لكنها حين رأت العشب بني اللون لم تعرف أنه بني في صغرها فسألت ما لون العشب فقيل العشب أخضر! فعاشت على أن اللون الذي تراه في العشب هو الأخضر وأخبرتك أنه أخضر لكنها تراه باللون الذي تسميه أنت بنيًا لكنها هي تسميه أخضر! هل أصابك الدوار؟ مثالٌ آخر وركز هذه المرة، الفراولة ما لونها؟ أحمر! بسيطة حسنًا هل تستطيع أن تصف لي اللون الأحمر؟ لا تستطيع؟ طبيعي فاللون لا يوصف! هي درجةٌ نراها وحسب من درجات انكسار اللون الأبيض حسنًا لنبتعد عن الأسماء، لا نستطيع صحيح لأننا لا نستطيع وصف الألوان إلا بأسمائها فكلنا نعرف أن اسم لون الفراولة أحمر، وركز على كلمة اسم اللون ولا أقول اللون، لكن عيوننا قد تكون مختلفةً ومميزةً عن بعضها البعض فما تراه أنت أحمر أراه أنا أزرق، ركز ثانيةً نفس ثمرة الفراولة على الطاولة بيني وبينك، نحن الاثنان نتفق على أن اسم لونها أحمر، لكن أليس من الممكن أنني أرى لونًا أحمر غير لونك الأحمر؟ ولو أن شخصًا ثالثًا يجلس معنا قد أرى أن الفراولة باللون الأحمر بالنسبة لي هو نفس اللون الذي يسميه الشخص الثالث أزرق بينما الأحمر بالنسبة لك يسميه الشخص الآخر أخضر، ببساطةٍ أكثر قد نجلس نحن الثلاثة حول حبة فراولة أنا أراها خضراء وأنت زرقاء وهو صفراء لكننا نسميها حمراء لأنني أسمي الأخضر بالنسبة لك أحمر بالنسبة لي وهكذا، من على حق؟! لا أحد بالطبع الألوان نسبيةٌ ليس فيها أسود وأبيض، ماذا؟ أعتذر أقصد ليس فيها صوابٌ تامٌ أو خطأ، لا يمكننا حتى إثبات أننا نرى نفس الألوان أو نرى ألوانًا مختلفة!
هل الأشياء ملونةٌ حقًا؟
لا تصب بالدوار سريعًا فلم ننتهِ من التساؤلات المؤلمة فكريًا بعد، دعني أسألك سؤالًا أيًا كان ميلك سواءً اقتنعت بأننا نرى نفس الألوان أو نرى ألوانًا نسبيةً مختلفة، هل الأشياء من حولنا ملونةٌ حقًا؟ لا تتسرع، لنعرف أولًا ماهو اللون وكيف نرى، نحن نرى بسقوط شعاعٍ من الضوء على أي جسم ثم انعكاسه من عليه، هكذا نعرف وجود الجسم وحدوده، أما اللون فيقال أن الضوء الأبيض عندما يسقط على الجسم ينعكس منه ضوءٌ ملونٌ ذو ترددٍ واحد فيعود للعين فترى العين ذلك الجسم بذلك اللون، بسيطة، لنبدأ من جديد، هل الأشياء ملونةٌ حقًا أم أنها معدومة اللون والضوء هو الذي يجعلنا نرى اللون؟ فكر ثانيةً، إن كان الضوء هو الأبيض وهو المكون من مجموعة الألوان معًا هو الذي يسقط على الشيء وهو الذي ينعكس وهو الذي يدخل العين، هل يعني ذلك أن الأشياء من حولنا كلها معدومة اللون والضوء هو الذي يقوم بكامل اللعبة؟ أن الألوان شيءٌ غير موجودٌ من الأساس في العالم من حولنا وإنما هو وهمٌ داخل عقولنا فقط؟ الفكرة مرعبة! تخيل العالم من حولك معدم اللون، ثم تخيل بعد ذلك أنك ترى عالمًا ألوانه تختلف عن ألوان غيرك، صارت الفكرة أكثر رعبًا وأصبح العالم مخيفًا وموحشًا!
تخيل عوالم الآخرين
لننتقل الآن إلى لعبةٍ أخيرة دورك فيها هو التخيل، لا نملك حتى الآن دليلًا على أننا نرى نفس الألوان ولا نملك دليلًا على أننا لا نرى نفس الألوان لكن لنفترض أننا لا نرى نفس الألوان فتخيل كيف ستكون عوالم الناس من حولك، دعنا نأتي بالشخص الذي يرى الفراولة زرقاء، ويرى السماء بنية، ويرى الأعشاب وردية فتخيل عالمه بكل الألوان التي تعرفها أنت بهذا الاسم، إذًا فهو يرى التفاح والنار والحمم البركانية والغروب والشفاه وإشارة المرور ومطفأة الحريق كلها باللون الأزرق، وهو بالنسبة إليه اللون المشتعل الحارق الذي ينذر حواسه وأعصابه ستتساءل كيف والأزرق بالنسبة لك هو لون الراحة! لنقل أن كل إنسانٍ مختلفٌ في شخصيته وما يحفزه عن الآخرين فاللون الأزرق الذي يريحك يثير أعصابه وينذره بالخطر ويشعره بالاشتعال لذلك مثل له عقله اللون الأحمر بالأزرق وفقًا لشخصيته! بينما اللون الذي يشعره بالراحة هو البني لذلك جعله عقله يرى ما تعرفه أنت باسم الأزرق بنيًا بالنسبة إليك لكنه يؤمن أن اسمه أزرق! منطقيةٌ قليلًا بالنسبة إلي ولا أدري عنك شيئًا! الفكرة مخيفةٌ أحيانًا ومثيرةٌ للفضول أحيانًا أخرى، ومن الواضح أن الألوان أمرٌ معقدٌ بالفعل وليس بالسهولة والبساطة اللذين حسبناهما، ما أجمل الألوان!