لا شك طبعًا على كون أعمال عاطف الطيب أكبر دليل على أن مصر مرت بمرحلة من المراحل كانت تمتلك فيها أفضل المُخرجين بالوطن العربي، مُخرجين يُمكن بلا أية شك مُقارنتهم بالمخرجين العالميين، فقد تمكنوا على الرغم من ضعف إمكانياتهم أن يصنعوا أفلامًا مميزة للغاية، تمكنوا من قيادة نجوم في التمثيل والتصوير في أماكن قد يبدو مُستحيلًا التصوير بها، وضمن هؤلاء جاء فارس الإخراج المصري عاطف الطيب، وهو الذي توفي في سن صغيرة نسبيًا يُمكن القول إنها لا تسمح للمخرج بأخذ كامل فرصته وتنفيذ كامل أفكاره السينمائية لدرجة أن الطيب كانت له بعض المشاريع بالفعل قيد التنفيذ ولم تتم بسبب موته، لكن على الرغم من ذلك خرجت تلك المجموعة الصغيرة من الأفلام على أفضل نحوٍ ممكن وصنعت التاريخ الذي يحلم به الرجل، لكن يبقى السؤال، كيف استطاعت تلك الأعمال من شغل هذه المكانة في السينما المصرية؟ السطور القادمة تأتيكم لتُجيب على هذا السؤال الهام.
استكشف هذه المقالة
عاطف الطيب والسينما
في السادس والعشرين من شهر ديسمبر القابع في عام 1947، وتحديدًا في محافظة سوهاج جميلة، ولد عاطف الطيب الذي بدا عاشقًا للسينما منذ يومه الأول، فالرجل لم يضع عينيه على الدراسة والتعليم في أي مكان آخر بخلاف المعهد العالي للسينما، أيضًا عندما انخرط في مجال السينما وكون الرؤيا الأولى بأنه سيُصبح مخرجًا لم يتهاون في تحقيق ذلك بأفضل الطرق الممكنة، فقد تدرب تحت يد أكبر المخرجين في مصر في ذلك التوقيت وعلى رأسهم يوسف شاهين، حيث عمل معه في فيلم إسكندرية ليه ثم بعد ذلك انطلق مع أول فيلم له وكان يحمل اسم الغيرة القاتلة، هذا قبل أن يعمل في عدة أعمال مع النجم أحمد زكي الذي كون معه الطيب ثنائي مميز، لكن قبل أن ندلف إلى أعمال عاطف الطيب دعونا نقف أولًا على أهم شيء قد يجذب الأنظار ويجعلنا نبحث خلف هذا الرجل، أسباب تميزه وحصوله على هذه المكانة، فكيف يا تُرى؟
كيف حظيت أعمال عاطف الطيب بهذه المكانة؟
اتفقنا الآن أن أعمال عاطف الطيب كانت مميزة إلى أبعد حد ممكن، وهذا يعني ببساطة أن ثمة رجل كان خلف هذه الأعمال وثمة أسباب دفعت إلى خروجها بالشكل المُلائم، تلك الأسباب يُمكن أن تُعتبر بكل بساطة أسباب تميز عاطف الطيب نفسه والسينما التي قدمها، على العموم، أهم أسباب شهرة هذه الأفلام ومكانتها ميل عاطف الطيب إلى المدرسة الواقعية.
الميل إلى مدرسة الواقعية
لا يختلف أحد بالتأكيد على كون المدرسة الواقعية هي المدرسة الأكثر شعبية في السينما، بمعنى أن الجمهور عندما يُشاهدها على الشاشة سوف يُصدقها أكثر ويتفاعل معها، لكن على الرغم من ذلك فإن أغلب الأعمال السينمائية تخلو تمامًا من تلك الواقعية وتبدو وكأنها أعمال خيالية، وهذا لا يعني أنها تعتمد على الخيال العلمي أو ما شابه، فقط لأنها تبدو وكأنها جديدة على الشعب أو المجموعة التي تخطبها ولا تُشبهها من قريب أو من بعيد، وهذا تحديدًا ما حاول عاطف الطيب تفاديه في أفلامه التي خرجت واقعية إلى أبعد حد ممكن وجعلته مميزًا عن بقية المخرجين، وربما أفلام مثل البريء وليلة ساخنة تبدو نموذج واضح على ذلك، في النهاية كان هذا سببًا كافيًا لتفوق أفلام هذا الرجل، لكنه ليس السبب الوحيد.
إبراز البطل العادي المنتمي للبسطاء
كل أبطال أعمال عاطف الطيب أشخاص من العامة والبسطاء، ليس هناك ضابط أو شخص ثري أو شخص مشهور، هذه الطبقة لا يُخاطبها الطيب على الإطلاق ولا يهتم بها، وإنما كل ما يهمه تواجد الشخص الذي بمقدوره تمثيل الطبقة البسيطة لأنه فعلًا من يُمكنه التغيير في الناس والتأثير بهم، ولو لاحظنا فإن الطيب كان يختار الوجوه التي يُمكن أن تتماشى فعلًا مع ذلك، ولهذا قام بالعمل مع النجم أحمد زكي في مجموعة كبيرة من الأفلام، وفي النهاية كانت النتيجة تأتي إيجابية إلى أبعد مدى ممكن، حيث كانت أفلام الرجل تُحقق أعلى الإيرادات في السينمات ودور العرض.
اختيار الممثلين بشكل مثالي في أعمال عاطف الطيب
كذلك من الأشياء التي أدت إلى تواجد أفلام عاطف الطيب بهذه المكانة الهامة أن تلك الأفلام تمت مراعاة فكرة الاختيار الأمثل للممثلين من خلالها، فلا يُمكنك أن تُشاهد فيلم لهذا المخرج ثم تأتي وتقول إنه كان ليكون أجمل لو تم اختيار الممثل كذا بدل الممثل كذا، هذا الأمر غير موجود بالمرة ونابع من فكرة الاختيار المثالي التي نتحدث عنها، أيضًا على الجانب الآخر لن يرفض أي ممثل أن يعمل مع الطيب مهما كان اسمه أو درجة نجوميته، فهو يعرف كل المعرفة أنه سوف يتعامل مع مخرج كبير سوف يُضيف إليه كثيرًا، كل هذا في النهاية أدى إلى صناعة الحالة التي نتحدث عنها.
البساطة الممتزجة بالفلسفة
بعض الناس لا يُحبذون الأفلام البسيطة ويرون أنها لا تليق بهم وأن الأولى لها العرض على جمهور العوام، والبعض الآخر، ممن يمتلكون تعليمًا ضعيفًا ولا يجيدون مشاهدة كل أنواع السينما تراهم لا يُحبذون الأفلام الفلسفية ويرون فيها نوع من أنواع المكابرة على المشاهد، وبالتالي سواء صنع المخرج هذه النوعية من الأفلام أو نوعية أخرى ففي النهاية سوف يجد نفسه محل اختلاف من الجمهور، ومن هنا جاءت أعمال عاطف الطيب بتلك القوة التي تجعله يمزج بين البساطة والفلسفة ويُخرج الفيلم في قالب مُعتدل ومناسب للجميع، وطبعًا هذا الأمر يظهر أكثر من خلال تتبع تلك الأفلام ومعرفة حقيقة حصولها على تقييمات عالية من النقاد لكن في نفس التوقيت تحقيق أكبر الإيرادات، أي الحصول كذلك على رضا الجمهور، وهو بالنسبة للطيب كان العنصر الأهم في معادلته السينمائية.
العمل مع كبار النجوم
لا شك أن العمل مع كبار النجوم أمر هام من أجل نجاح أعمال أي مُخرج وليس فقط عاطف الطيب، وهذا بالضبط ما حدث مع هذا المخرج الذي كان يتهافت إليه أكبر نجوم الفن في الجيل الذي عمل به وعلى رأسهم أحمد زكي الذي يظهر ذلك الأمر من خلال العمل سويًا في أربع أفلام أنجحها فيلمي البريء وضد الحكومة، أيضًا عمل الطيب مع نور الشريف وشريهان وحسين فهمي ومحمود عبد العزيز والكثير الكثير من النجوم المميزين الذين صنعوا مجد السينما المصرية، وربما لو استمر الطيب لكان قد عمل كذلك مع نجوم الزمن الحالي، لكن موته في سن صغيرة، وتحديدًا سن الخمسين، حرمه من ذلك.
مزج المتعة البصرية بالقضية
عندما تُشاهد فيلم من الأفلام هل تبحث عن المتعة البصرية أم تبحث عن القضية التي يُناقشها الفيلم؟ على العموم مهما كانت إجابتك فإن أعمال عاطف الطيب لم تُهمل أي عنصر من هذه العناصر وراعت تمامًا مزج المتعة البصرية بالقضية في نسيج ربما لا يُمكن القيام به بالصورة الصحيحة سوى عدد قليل جدًا من المخرجين كان ضمنهم عاطف الطيب، فإذا شاهدت فيلم البريء مثلًا فسوف ترى أمامك أماكن تصوير هامة مثل السجن والصحراء، أيضًا ثمة مشهد صعب في محطة القطار ومشاهد في الشوارع العامة، فبغض النظر عن القصة نجد أن مثل هذه المشاهد تُريح العين، لكن الفيلم نفسه لا يزال محتفظًا بقضيته الرئيسية وما تلك المتعة البصرية إلا أداة تخدم ذلك وبقوة.
أهم أعمال عاطف الطيب
الآن بعد أن تعرفنا على أسباب تميز أعمال عاطف الطيب وكيفية حصوله على تلك المكانة الهامة في السينما المصرية والعربية فبكل تأكيد نحن في حاجة إلى الاقتراب أكثر من هذا الرجل عن طريق تناول أهم أعماله، فإذا أردت التعرف على كاتب عليك أن تقرأ كُتبه، وإذا أردت التعرف على مخرج فلتُشاهد أفلامه، والتي أهمها لعاطف الطيب بالتأكيد فيلم البريء.
البريء 1986
في الحقيقة فيلم البريء ليس فقط فيلمًا هامًا ضمن أعمال عاطف الطيب المميزة، وإنما هو في نفس التوقيت أحد أهم أعمال السينما المصرية وأهم الأفلام التي أُنتجت في تاريخها بشكل عام، إذ أنه لا يُمكنك تخيل شكل السينما المصرية دون وجود هذا الفيلم بها على وجه التحديد، ولمن لا يعرف فإن الفيلم من حيث القصة يدور حول المجند أحمد سبع الليل الذي يعيش في قرية مع شاب جامعي مثقف، وهذا الشاب يجعله يلتحق بالجيش من أجل خدمة وطنه، وبالفعل يفعل أحمد ذلك ويلتحق بالجيش ويتم نقله إلى السجن للحراسة هناك، وعلى الرغم من أن أحمد كان يظن أنه يخدم وطنه إلا أنه يُفاجئ بأنه يُسهم في تعذيب المعتقلين السياسيين الذين يُعارضون النظام، وهذا ما يتضح بقوة عندما يرى صديقه السياسي الذي نصحه بالانضمام وهو قادم في صورة مُعتقل سياسي ويُطلب منه تعذيبه، وهنا يرفض أحمد الأوامر العسكرية.
الفيلم يدور حول الأوامر وعصيانها والموافقة عليها وكذلك فكرة الانضمام للجيش وكونها واجب وطني، لكنه يتحدث كذلك عن الاستغلال الخاطئ للمُجندين، وربما فكرة مثل هذه لا تخرج إلا من مؤلف كبير مثل وحيد حامد، فهو الذي كتب السيناريو والحوار والقصة للفيلم، أما عناصر الإبداع فقد كانت بقيادة المخرج المايسترو عاطف الطيب والبطولة كانت من نصيب أحمد زكي وممدوح عبد العليم ومحمود عبد العزيز وإلهام شاهين ولفيف آخر من النجوم والمُبدعين.
كتيبة الإعدام 1989
لا يُمكن طبعًا نسيان أحد أهم أعمال عاطف الطيب وأكثرها نجاحًا وشهرة، والحديث هنا عن فيلم كتيبة الإعدام الذي صدر عام 1989 وكان يتحدث عن الناحية الوطنية لكن بشكل آخر مُختلف بعض الشيء، فقصة الفيلم الظاهرية تدور عن مجموعة من شباب المقاومة بالسويس يقوم أحدهم بالإبلاغ عنهم بالتعاون مع المخابرات الإسرائيلية وظُلمًا يتم اتهام شخص آخر، لكن الفيلم يبدأ من تلك اللحظة التي يخرج فيها هذا الشخص من السجن ويبدأ في البحث عن مُنفذي تلك الخيانة بالتعاون مع ضابط شريف وابنة رئيس المقاومة، فما الذي سيحدث بعد ذلك؟ هذا ما تحاول أحداث الفيلم أن تكشفه الآن في تناسق ممتع كان تحت إشراف المخرج عاطف الطيب، أما البطولة فكانت من نصيب لفيف من النجوم منهم نور الشريف ومعالي زايد وممدوح عبد العليم وعبد الله مشرف والكثيرين غيرهم.
ضد الحكومة 1992
مرة أخرى يعود عاطف الطيب للتعاون مع النجم أحمد زكي، لكن هذه المرة تبدو الأمور أكثر تعقيدًا عندما يعمل في أحد أجرأ الأفلام التي مرت بتاريخ السينما المصرية، والحديث هنا عن فيلم ضد الحكومة الذي صدر عام 1992 وكان يتحدث عن مُحامي فاسد لكنه يتغير عندما يتعرض ابنه لحادث أليم، ليُقرر بعد ذلك الثأر ممن تسببوا في حديثه ويرفع قضية رأي عام ضد الحكومة ويُطالب باستجواب الكثير من الوزراء والمسئولين الكبار، فما الذي سيحدث بعد ذلك؟ هذا ما يُجيب الفيلم عنه في وجبة من الجرأة الخالصة التي تجعلك تُفكر في كيفية إخراج الطيب لفيلم بهذه الخطورة، أيضًا البطولة كانت من نصيب نجوم كبار مثل أحمد زكي والنجمة لبلبة، حتى عملية التأليف أشرف عليها السيناريست الكبير بشير الديك، ببساطة، كان الفيلم قويًا فعلًا ويُعد من أهم أفلام السينما المصرية.
سواق الأوتوبيس 1982 من أهم أعمال عاطف الطيب
مثلما أدى عاطف الطيب مع أحمد زكي الكثير من الأفلام الناجحة فقد تكرر نفس الأمر رفقة نور الشريف، وربما الفيلم الذي تجلى فيه هذا التألق ووصل إلى أعلى درجة ممكنة له من خلاله هو فيلم سواق الأوتوبيس الذي صدر عام 1982 تزامنًا مع انطلاق مشوار الطيب في سماء الإخراج، وقد كان الفيلم يدور حول حسن البسيط الذي تضطره ظروف الحياة إلى العمل كسائق من أجل توفير الأموال الصالحة للعيش هو وأسرته، أيضًا يعلن والده إفلاسه لتتراكم بعد ذلك الهموم على هذا الشخص البسيط ويبدأ رحلة البحث عن الخلاص من تلك الضغوط وسط تشبث منه بالأمانة والوطنية والشرف.
فيلم سواق الأوتوبيس كان من بطولة نور الشريف وميرفت أمين والراحل عماد حمدي الذي شارك في هذا الفيلم كآخر عمل له، أيضًا شهد الفيلم ثنائي كتابة على مستوى متميز للغاية، فقد كتبه محمد خان رفقة بشير الديك، وكل عناصر التميز هذه انعكست على الجوائز والمراكز التي نالها الفيلم، فقد حصل نور الشريف على أكثر من جائزة في أكثر من مهرجان تقديرًا لدوره المميز بينما حصل عاطف الطيب على جائزة أول مرة في مجال الإخراج، أيضًا الفيلم يدخل ضمن قائمة أفضل مئة فيلم في تاريخ السينما المصرية ويتواجد في المراتب العشر الأولى منها، وهو ما يعكس تفوقه الكبير طبعًا.
الحب فوق هضبة الهرم 1986
كما ذكرنا، أغلب أعمال عاطف الطيب كانت رفقة النجم أحمد زكي، وقد ظهر هذا الأمر مجددًا من خلال فيلم الحب فوق هضبة الهرم الصادر عام 1986 والذي يتحدث حول مشاكل الشباب وما يواجهون خلال فترة الخطوبة، وقد تجسد ذلك من خلال قصة حب بين علي ورجاء، حيث أنهما بعد فترة طويلة من الخطوبة لا يجدان التكاليف اللازمة من أجل إقامة حفل زفاف وشراء مكان للزواج فيه والقيام بكل الترتيبات الخاصة بهذه العملية، ولذلك يُقرران الزواج سرًا والذهاب إلى هضبة الهرم لممارسة الحياة الزوجية لكن بوليس الآداب يتمكن من القبض عليهما ومن هنا تندلع قضية وقصة الفيلم في إطار رومانسي اجتماعي ساخر تحت قيادة العازف عاطف الطيب، أما البطولة فكانت من نصيب أحمد زكي وميرفت أمين ونجاح الموجي وأحمد راتب، وقد تولى مسئولية الكتابة مصطفى محرم عن قصة للأديب المصري العالمي نجيب محفوظ.
ختامًا عزيزي القارئ، تناول أعمال عاطف الطيب وأسباب تميزه بهذه الصورة لا يعنيان أبدًا أن الرجل كان وحيد عصره ولم يكن هناك مُخرجين أكفاء غيره، هو فقط يقع ضمن الأفضل والأكثر شهرة وموهبة، لكن ثمة عظماء آخرين مثل شريف عرفة ومحمد خان وداود عبد السيد والكثيرين غيرهم، فقط جاءت السطور الماضية في حب سينما الطيب.
أضف تعليق