يعتقد البعض بأن الأخلاق والسلوكيات الحميدة وأسس التربية حكرًا على الإنسان فقط، ولكن أخلاق الفيلة تخبرنا بعكس ذلك. حيث يعتقد هؤلاء بأن الأخلاق قادمة من الديانات والأسس المجتمعية المختلفة، ولا يمكن أن تأتي من الفطرة الأولى والطبيعية للإنسان. ولكن أخلاق الحيوانات التي تعيش في جماعات، مثل أخلاق القرود وأخلاق الفيلة وأخلاق حتى الأسود، تخبرنا أن أي مجموعة من الحيوانات مضطرة إلى العيش في نمط حياة الجماعة، تظهر فيما بينهم أخلاق وسلوك حميد يعلمها الآباء للأبناء. وذلك لأن الجماعة تفرض على الحيوان أن ينمي بعض المبادئ، إن جاز التعبير، حتى يضمن السلام بين الأفراد. وهنا بعض أخلاق الفيلة التي ستدهشك، وقد لا تراها سوى في عالم الفيلة، لتدل على نقاوة هذا العالم إن لم يتدخل فيه الإنسان.
ما هي أخلاق الفيلة وكيف تميزت عن غيرها من الحيوانات؟
أخلاق أساسية في عالم الحيوان بشكل عام
هناك بعض الأخلاق أو القيم، أو المفاهيم التربوية التي تجدها في عالم الحيوان بشكل عام، وليست حكرًا على أخلاق الفيلة فقط. مثل طاعة الكبير أو ولي الأمر داخل الجماعة وداخل الأسرة الواحدة. وأيضًا تجد احترام كبار السن، ومساعدة الصغار في نفس الوقت. وتجد كذلك القيم التي تشكلها القاعدة الهرمية للمجتمع، فلكل واحد دوره وواجبه، وله عند الآخرين حقوق. كما تجد الدفاع عن الجماعة والانتماء لها، حتى لو تطلب الأمر التضحية بالنفس. وأخيرًا فضائل عدم الاعتداء الجنسي، وعدم الزواج من الأقرباء المقربين مثل الأخوة. وكل تلك الأخلاق والقيم تبقى ثابتة، طالما لم يزعزع الإنسان أمن تلك الجماعة بأي شكل من الأشكال. وسنخص الأمر هنا على أخلاق الفيلة، التي كانت تعيش بهدوء وسلام حتى تدخل الإنسان في حياتها.
أخلاق الفيلة تتحطم
كانت الفيلة المسالمة تعيش في كل مناطقها بدون إزعاج من البشر إلى وقت كبير. إلا إن انتبه لوجودها الإنسان المتحضر المتعطش للسيطرة والأناني. فبدأ العالم كله يلاحظ هذه الكائنات العمالقة التي تحكي عن زمن كان فيه الأقوى هو الأضخم. وعندها تلطخت سمعة عالم الفيلة، مع ازدياد حالة هيجان وغضب الفيلة، وقتلهم للبشر الذين كانوا سبب تلك الأذية. حيث زادت الأخبار التي تأتي من أسيا وأفريقيا التي تعرض فيها الإنسان للموت بسبب غضب وهيجان من قطيع فيلة بشكل مجنون. وصل العدد إلى 500 شخص في أفريقيا، و300 في أسيا، في عام واحد فقط. مع العلم بأن أعداد الفيلة تتناقص عن السنوات العشر الأخيرة، ولكنها دومًا كانت على وفاق مع البشر، ولم يصل عدد الموتى إلى هذا العدد من قبل. مما جعل العلماء في السنوات الأخيرة ينتبهون إلى أمر مهم جدًا. هل الفيلة تعلمت من الإنسان الوحشية، طوال الفترة التي احتك فيها الإنسان بقطعان الفيلة؟
عوامل هذا الاختلال في أخلاق الفيلة
قامت الدراسات التي وجهت تركيزها إلى معرفة هذا الاختلال السلوكي في أخلاق الفيلة المسالمة. فوجدوا أن هناك عدة عوامل، ولكن أهمها التغير البيئي. لأن الإنسان قام بقطع أشجار الغابات الكثيفة التي تعد بيت هؤلاء الفيلة، بسبب تحوليها إلى مناطق زراعية أو سكانية لزيادة السكان، أو الاستفادة من الأشجار بشكل مباشر. مما جعل المساحات المتاحة للفيلة تقل. فلا توجد هناك مناطق كافية للبحث عن الطعام والتجول بحرية بشكل كافي. هذا الأمر يزيد نسبة التوتر لدى الفيلة. لأنها تحتاج إلى منطقة أمنة تختلي فيها مع نفسها لأنها تحب العزلة، بدون الإحساس بالخوف والتوتر الناتج عن مراقبة أمان المنطقة بشكل متواصل. هذا التوتر يجعلها في حالة هيجان وغضب، ويضطرها إلى الدخول إلى المناطق الزراعية والسكانية من أجل محاولة السيطرة عليها وإيجاد الغذاء.
بالإضافة إلى العامل البيئي، فهناك أيضًا عوامل أخرى مهمة. وعلى حسب أراء الباحث جاي برادشو، من جامعة اوريغون. الفيلة أصيبت بأمراض نفسية. وهي أمراض نفسية ناتجة عن المرور بصدمات نفسية كبيرة. تمامًا مثل الجنود العائدين من الحرب، أو الإنسان الذي يمر بأحداث كارثية ومأسوية، جعلته يمر بصدمة نفسية حزينة جدًا. بحيث تظهر على الفيلة أعراض تلك الأمراض، مثل الاكتئاب، والعدائية والعصبية المستمرة، مع ردود الأفعال العنيفة والنفور من الحياة المجتمعية. وحتى أنك قد تشاهد فيل يقوم بضرب رأسه في شجرة ضخمة. ليس بهدف إسقاطها أو الأكل منها، ولكن فقط كنوع من العدائية حتى تجاه نفسه. وهذه المناظر في منتهى الغرابة وتدعو للعجب لتشابها مع أفعال الإنسان الحزين أو النادم.
لا توجد تربية سليمة للمراهقين
أخلاق الفيلة تحتم على كبار الفيلة أن يربوا المراهقين الصغار. وسن المراهقة في عالم الفيلة يظهر ما بين عامهم الخامس عشر، حتى بلوغ سن الخامسة والعشرين. إلا إن السنوات الماضية كثرت فيها عمليات الصيد الغير القانونية، قبل أن يتم سن القوانين اللازمة والعقوبات. فتعرضت تلك الفيلة الصغيرة إلى مشاهد عنف سببت صدمات نفسية كبيرة في داخل هذه الفيلة. وللعلم بالشيء عزيزي القارئ، فالفيلة لا تنسى ولديها ذاكرة قوية تشبه الإنسان. فقد رأت تلك الفيلة عمليات قتل للكبار، ويمكن أن يكونوا قد خطفوا من بين جماعاتهم للدخول إلى عالم الإنسان في حديقة مغلقة، ويأتي لهم البشر يوميًا لمشاهدتهم واللعب معهم وهم لا يريدون ذلك. فالإنسان لا يفرق ولا يعطي حساب للسن وصلة القرابة. وقد شهدت تلك الفيلة موت أقربائها أمام عينها، والخروج من مناطقهم الأمنة. ومن بقي هناك أيضاً لن يجد الاهتمام والرعاية الكافية للتربية. وقد كان البشر يقتلون الفيلة بأعداد كبيرة لجعل العدد الباقي مناسب للمساحة المتوفرة لهم.
وبسبب كل تلك الأمور، ظهر جيل من الفيلة عنيف. لا يملك أخلاق الفيلة المعتادة التي يعلمها الآباء للأبناء. فليس هناك من يعلم، وليس هناك من يجبر الصغار على اتباع الأخلاق الحميدة والسلوكيات الحسنة. وبدأت النزاعات العنيفة تظهر بدون رقيب على هذا العالم، سواء فيما بينهم أو مع البشر وباقي الحيوانات. “Caitlin O´Connell-Rodwell” هو باحث في السلوك الحيواني من جامعة ستانفورد. ويقول إن الفيلة تطلب الآن بالانتقام والثأر من عدوها الإنسان. بسبب كل الجرائم التي ارتقبها بحقها، وأنهم الآن في حالة من الحقد والغضب، ويستغلون ضخامة أحجامهم في المواقف التي تتاح لهم.
من يعاني من انحطاط أخلاق الفيلة بالإضافة إلى الإنسان؟
ليس الإنسان وحده هو من يعاني من انحطاط أخلاق الفيلة وتبدل حالة السلام التي كانوا يعيشونها. فالفيلة أيضًا نشأت بها حالة من الغضب والصراع الداخلي والتفرق الجماعي الواحد. في جنوب أفريقيا 6% من حالات جثث الفيلة، سجلت نتيجة لمعركة بين الفيلة وبعضها وانتصار الأقوى، رغم أن ذلك ليس من طباع الفيلة الأصيلة. وفي بعض المناطق الأكثر توترًا، وصلت إلى 90%. كما تتعدى الفيلة على بعضها بطرق أخرى كثيرة لا ينتج بالضرورة عنها موت أحد الأطراف. قد يكون هذا التعدي عبارة عن تعدي على المناطق أو على الغذاء، أو حتى تعدي جنسي على الإناث.
كما لم تسلم باقي الحيوانات من غضب الفيلة وانتقامها من الإنسان. فتم تسجيل حالات قتل لوحيد القرن الأبيض، وهو حيوان يفترض أنه يعيش في وئام وسلام جنبًا إلى جنب مع الفيلة، ويتفادوا الاقتراب والتعدي على بعض. وقد وصل عدد القتلى إلى 40 حالة، بدون أسباب واضحة سوى أسباب حالات هيجان غير مبرر للفيلة. وذلك ما بين الأعوام 1992 و1997. وقد شوهدت حالات اغتصاب تتم بين ذكور الفيلة القوية، وبين إناث وحيد القرن، وهذا الأمر مخالف للطبيعة وخاصة أخلاق الفيلة المعهودة.
أخلاق الفيلة العنيفة في حدائق الحيوانات
أغلب حدائق الحيوانات بالعالم، تعاني من عنف الفيلة والخطر التي تسببه على الزوار. والبعض منها يسبب خطرًا على وحيد القرن وباقي الحيوانات الموجودة بالحديقة أو المحمية الطبيعية. والتصرف الإنساني في هذه الحالة، بالطبع سيكون شرير وغشيم هو الأخر، فيكون بقتل الفيل الغاضب والمسبب للمشاكل وانتهى الأمر على ذلك. أما منتزه Pilanesberg National Park، وهو منتزه قومي كبير موجود في جنوب أفريقيا. فقرروا التصرف بطريقة أخرى لإنهاء المشكلة من الجذور.
كانت المشكلة الرئيسية هي نمو صغار الفيلة في غياب وجود الكبار والرقيب الذي يعملهم أسس الأخلاق والقيم المجتمعية. فلم ينتموا إلى قطيع كبير، وحتى الأنثى القائدة كانت تطردهم فور وصولهم إلى مرحلة البلوغ. مما يدفعوهم إلى التمرد والعنف. إلا إن المنتزه فكر بجلب ثلاثة أفيال ذكور كبار بالسن، ووضعهم بالقرب من الفيلة المتمردة. بعد عدة شهور تمكنت الفيلة الحكيمة من السيطرة على طيش المراهقين الصغار، وعلمتهم أخلاق الفيلة الحقيقية. فعاد الهدوء والسلام ما بين الفيلة وبعض في تعاملاتهم المجتمعية مع سائر القطعان. وبين الفيلة وباقي الحيوانات والإنسان كذلك. أظهرت تلك التجربة أن الفيلة يمكن أن تعامل بطرق علاجية نفسية كما الإنسان بالضبط. لأن القتل ورد العنف بالعنف، يفاقم المشكلة. ويجب على الإنسان أن يحترم هذا العالم ويتعامل معه باهتمام لنفسية الحيوان. حتى لا يؤذي الطبيعية، فلا تؤذيه هي.
حلول أخرى عبقرية
الفلاحين الذين يواجهون المشاكل بسبب عنف تدمير الفيلة لمزارعهم، كان عليهم التصرف، ومحاولة إبعادهم بدون أذية الفيلة نفسها لتفادي العنف الأكبر. فقاموا بزرع الفليفلة الحارة حول المزارع والحقول والبيوت. لأن الطعم الحارق للفلفل يثير الغشاء المخاطي الحساس لخرطوم الفيل. فتنفر الفيلة مع الوقت من تلك المزارع ولا تعود. وحتى إن كمية من الفلفل الحار تبقى بالقرب من الفلاحين، حتى تستخدم لتهدئة الفيلة وابتعادها إن حاولت الهجوم. مع الوقت تعلمت الفيلة الغاضبة أن تلك الأماكن محرمة عليها، ولا مكان لها، وستصاب بالمشاكل إن حاولت الاقتراب. وفي ذات الوقت لم يقتل الفلاحين أي فيل وأمنوا حقولهم.
من جهة أخرى، تعمل منظمات عالمية على تدريب من يتعامل مع الفيلة. على إنهم يجب أن يحترموا أخلاق الفيلة ونفسيتها. فلا يسببوا ما قد يزعجها ليتفادى العالم كله ثورة غضبهم القاتل. فيتعاملوا معها بالاحترام والتقدير، ولا يقمون بأذيتها إلا في حالات الطوارئ القصوى. وكأنها بشر لا يجب أن تستفزه أو تسبب له مشاكل نفسية. ومن الجهة الحكومية، فتم وضع وسن القوانين المناسبة، وفرض العقوبات الشديدة على من يخالف. وعلى الحدائق كذلك أن تتعامل مع قطعان الفيلة وتوجههم بدون أن تكسر الروابط العائلية وصلات القرابة، فلا تكسر الهرم الاجتماعي. وقد تقوم الحدائق بنقل عائلات وقطعان بأكملها إلى المكان المناسب لهم حتى لا تفقد هذا التوازن وتوفير بيئة جيدة في نفس الوقت. فالحفاظ على نظام العشيرة والمجتمع، هو من يحمي تلك الفيلة من التمرد وحب الانتقام.
أخيرًا عزيزي القارئ، يجب أن تنتبه إلى إن أخلاق الفيلة أو غيرها من الحيوانات لا تختلف في نشأتها عن تلك الإنسانية. فالمجتمع العائلي والاحترام للكبير وأسس التربية، هي من تنتج جيلًا صالحًا في أي مكان وفي أي عشيرة. وكما نحافظ نحن البشر على هذه القيم الصالحة، يجب أن نسمح لغيرنا من الحيوانات على ممارستها بحرية. حتى لا تنقلب على رأسنا الطاولة، وتغضب الطبيعة وتؤذي الإنسان نفسه.
أضف تعليق