عرَف الإنسان قراءة الخريطة مُذ عرَف العالم وهوَى الترحال به. والبشرُ لا يعدمون إما رحّالة أو مجرد آخرون يشغرون حيزًا من العالم. فما المتعة من الحياةِ إن تجرّدت من السفر والترحال؟ ومن خوض مغامرة الرحيلِ إلى وجهةٍ لا يعلمُ عنها شيئًا، ولكنه يعلمها!، ولا يدري تقاسيمها ولكنّ معالمها مكنونةٌ مسبقًا داخل صدره!، ولا يفهمُ أسباب سيرِه إليها، ولكنّهُ يتفهّمُها ويسايرُها دون أن تنغّصه مراسيل الدنيا أو نكدِ الخلق؟!. لم يكن الترحال لينفصل عن الإنسان ولا لينفصل الإنسانُ عنه، ولو قطع الخلق الأرض ذهابًا وإيابًا باختلاف الغايات لما ملوا السفر، وأرادوه. من أجلِ ذلكَ، كان لا بد من أن تُبتكر الخرائط، وكان لا بد لكل رحّالة من أن يتعلمَ فن قراءة الخريطة قراءةً تعينهُ على شدِّ رحاله إلى أيّ مكانٍ شاء.
تعرف على طرق قراءة الخريطة المختلفة
تاريخ ابتكار الخرائط
أقدم خريطة عُثر عليها كانت قبل عام 2500 ق.م في بلاد بابل/ العراق، كانت عبارة عن لوح من الطمي يُظهر إحدى المستوطنات الموجودة على جبل يقابلهُ أحد الأودية، ويعتبر البابليون هم من لهم السبق في تطوير الخرائط، فقد ابتكروا نظامًا لتقسيم الدائرة 360 درجة متكافئة، ويستغل هذا النظام هذه الأيام لتحديد درجات الطول والعرض. ثم جاء بعد ذلك قدماء المصريين، فابتكروا وسيلةً في المساحة الأرضية (Geodesy) لإعادة رسم مخطط الأراضي الزراعية لتحديد الملكيات إثر الفيضانات التي كانت تشهدها أراضيهم لا سيّما على ضفافِ النيل. ومن ثمّ الإغريق، فقد وضعوا بصمةً عميقة في مجال المساحة الأرضية، وطوروا تقنيات تيسر قراءة الخريطة عن طريقِ تغيير مساحتها. أما عند اليونان، فقد تصدّر الجغرافيّ كلودياس بطليموس (150م) هذا المجال، فصنّف كتابه “الجغرافيا” الذي يتألف من ثمانية أجزاء تضم 8000 خريطة (خريطة العالم) للأماكن التي عُرفت وقت تصنيفه للكتاب، كانت هذه الخرائط مزودةً بخطي طول وعرض كل مكان، وإرشادات لرسم مساقط مختلفة. ولم تشهد الخرائط تطورًا ملموسًا في العصور الوسطى إلا من قبل العرب والصينيين، ولكن رسم الأوروبيين حينها خرائط شديدة الدقة تسمى “البورتلان”، كانت تخدم أكثر ما تخدم السفن؛ حيث إنها كانت مزودةً بخطوط مستقيمة تبين سواحل البحر المتوسط بدقة، مما ساعد السفن على تحديد وجهاتها.
أما العرب، فقد كانت بصمتهم نقلةً كبيرة في مجال رسمِ وتطوير وسائل قراءة الخريطة للفرد العادي. فبعد ترجماتهم لكتب بطليموس، طور علماء العرب أساليب قياس خطوط الطول والعرض، وأصبحت مؤلفات الجغرافيا عند العرب تتكئ على الخرائط كركيزةٍ لها، فترسم الخريطة الواحدة ويؤلف لها كتاب لشرحها، وكانوا يعتمدون كذلك في ترقيماتهم للخرائطِ على الحروف العربية، حيث إنه حتى ذلك الحين لم تكن أرقام العربية قد شكّلت.
أنواع الخرائط عند العرب
عرَف العرب والمسلمون مدارسَ عدة للخرائط، فكان منها خرائط “صور الأرض” أي رسم مفصّل لما في داخل الكرة الأرضية، دون ربطها بخطوط وهمية كما في علم الفلك، وقد ألّف ابن حوقل كتابه “صورة الأرض” في القرن الرابع الهجري على هذا النوع من الخرائط، وكان هذا النوع هو الأضبط قيمةً على المستوى العلميّ، من حيثُ دقة الرسم، والعمليّ من حيث قراءة الخريطة نفسها وتبسيطها للعوام. أما تلك المدارس التي ربطت بين الفلك والرسم التصويريّ للأرض، فقد كانت متأثرةً باليونان، وقد تبنى هذه الطريقة علماء مثل الخوارزمي والبيروني. والأخيرة هي مدرسة البلدانيين والمسالكيين، وكانت هذه المدرسة عربيةً خالصةً، لا يشوبها تأثير اليونانيين بخطوطِ العرض والطول الوهمية، فجاءت منها خريطة الإدريسيّ، وخريطة الإصطرخيّ الذي كان أول من رسم خريطةً تختصُ بالعالم الإسلامي عن طريق التجرِبة والمشاهدة الفعلية أثناء الترحال، وقد تبنى المسالكيين العرب مدرسة الإصطرخيّ التي لم يستخدم فيها طريقة اليونانيين بربط الرسم بالفلك، فسميت مؤلفاتهم بذلك “أطلس الإسلام”.
كيف تقرأ خريطة كالمحترفين؟
قبل الخوض في شرح كيفية قراءة الخريطة باحتراف، لا بد من الإشارة إلى صنوف الخرائط من حيث غرض استخدامها. فثمة خرائط الحركة، والخرائط المرجعية العامة، والخرائط الموضوعية، والخرائط التقييمية، وكل له وظيفته. فتستخدم خرائط الحركة مثلًا للمساعدة على التنقل من مكان إلى آخر. أما الخرائط الطبيعية أو الخرائط الأرضية، فهي توضح الظواهر الطبيعية بشكل عام، كالبحار والأنهار والجبال والتلال وغيرها، وهذه الخرائط تصنف تلك الظواهر وتحدد موقعها، وتوضح أيضًا علاقة مواقعها بغيرها من الأماكن. وتتشعب من الخرائط المرجعية أيضًا الخرائطُ السياسية، وهي التي توضح حدود البلاد بخطوطٍ افتراضية تفصل بين البلدان وبعضها.
ويكون فن قراءة الخريطة باختلافِ أنواعها موحدًا تقريبًا، فالخرائط الجغرافية والحركية والموضوعية والسياسية كلها تقريبًا تستخدم نفس التقنيات والأدوات والتنظيمات لقراءتها. وللتمكن من قراءة الخريطة لا بد من معرفة الآتي:
الاتجاهات
لا بد من أن يكون لديك تصور ذهنيّ جيّد للاتجاهات الرئيسة للمدينة أو المكان الذي تقصده (شمال- جنوب- شرق-غرب)، فالخريطة مزودةٌ بمفاتيح اتجاهات للمدن، فإن كنت تريد الذهاب إلى غرب المدينة مثلًا، ستنظرُ في غربِ الخريطة على يسارك، فتجدُ رسمًا تقريبيًا لوجهتك.
مقياس الخريطة
ومقياس الخريطة هو ببساطة النسبة بين مساحة الخريطة والمساحة الواقعية على الأرض، ويكون المقياس عادةً موجودًا أسفل الخريطة، وهو يختلفُ من خريطة إلى أخرى. وتُحسب المسافة التقريبية التي تُقطع للوصول إلى المكان عن طريق قياس المسافة الموضحة في الخريطة بالمسطرة، وضربها بعد ذلك في معامل النسبة الحقيقية أسفل الخريطة، وبذلك يكون الناتج هو المسافة التقريبية التي سيقطعها المسافر.
خطوط الطول والعرض
تحتاج في قراءة الخريطة معرفة مقياس خطوط الطول ودوائر العرض، وذلك في الرحلات بالأماكن البرية والصحاري أو المناطق الجليدية، حيث إنه لا يوجد بهذه الأماكن أي علامات تبينها، فكانت خطوط الطول عِوَضًا وعونًا على معرفتها.
الرموز والألوان
تستخدم الرموز والألوان في تحديد نوع التضاريس البارزة في الأماكن من حيث كونها جبال أو أنهار أو مؤسسات ومباني. ولألوان المفاتيح أو الرموز هذه دِلالات، فالمفتاح الأخضر مثلًا يدل على المساحات الخضراء، كالغابات والأراضي الزراعية وغيرها، والمفتاح الأزرق يدل على المياه، والمفتاح البنيّ يدل على الجبال، ويتدرج اللون البنيّ بحيثُ تدخل درجة غمقه على مدى ارتفاع الجبل. ويدل على الصحاري والمناطق الصخرية خطوط، يدل التواءها وتقاربها على صعوبة السير بها، ويدل انتظامها وتباعدها على إمكانية السير فيها. وثمة رموز أخرى تختلف دلالاتها من خريطة إلى أخرى، وغالبًا ما يكون موضحًا دلالة الرمز أسفل الخريطة.
تحديد أقصر طريق
بعد أن عرَفت قراءة الخريطة ورموزها قراءةً صحيحة، بقي لك أن تحدد المكان الذي تستقرّ به في الخريطة جيدًا ، وذلك بتحديد المعالم البارزة التي تحيطه، ثم اختر الطريق الأقصر والأيسر الذي ستسلكه نحو وجهتك. وإن كنتَ ستزور عدة أماكن فابدأ بالأقرب ثم الأبعد حتى لا تُضع وقت رحلتكَ في التيهِ أو الدوران بأماكن لا ترغب في زيارتها. ومن المهم أن تحدد الطريق بخطوط واضحة حتى يسهل عليك تتبعها والرجوع إليها أثناء ترحالك.
وأخيرًا، لا تجلس ببيتكَ واضعًا كفيكَ على خديكَ كمن تركها بعلها ليتزوج بأخرى!. شد رحالك إلى أي مكانٍ تجدُ فيهِ التغيير الذي يحقُ لكل فردٍ على هذه البسيطة، فالسفر إحدى مضادات الكآبة. غامر باختيار مكانٍ ناءٍ والجأ إليه عندما تملُّ من نمطِ الحياة المتكرر، أو تتعبُ من فواقعِها. الأمر لا يتطلب منكَ الكثير، فقط تعلم قراءة الخريطة وآتِ بها، وخذ قدميكَ وهِمتكَ.. وترحّل.